عقوبات تركيا: اجتياز أزمة ثنائية تاريخية

عقوبات تركيا: اجتياز أزمة ثنائية تاريخية

لم يكن احتجاز المواطن الأمريكي أندرو برونسون سوى الحدث الأخير ضمن قائمة طويلة من المظالم الثنائية بين أنقرة وواشنطن. فمن الجانب التركي، يساور المسؤولين مخاوف أمنية داخلية حول التعاون الأمريكي مع «وحدات حماية الشعب» الكردية السورية، التي هي فرع «حزب العمال الكردستاني»، عدو أنقرة المحلي. كما أنّهم قلقون من أن يتم فرض غرامات باهظة على المؤسسة المالية التركية الرئيسية “هالك بنك”، بسبب انتهاك العقوبات ضد إيران. ولا يزالون منزعجين من رفض واشنطن تسليم فتح الله غولن، الذي يلقي الكثير من الأتراك اللوم عليه بشأن الانقلاب الفاشل عام 2016.

وعلى الجانب الأمريكي، يتساءل البعض عمّا إذا كانت تركيا لا تزال حليفاً موثوقاً به. فمن وجهة نظرهم، إذا قامت أنقرة بشراء النظام الدفاعي الصاروخي الروسي “S-400 ” والطائرات المقاتلة الأمريكية “F-3” على حد سواء، فمن الممكن تسريب بيانات عسكرية أمريكية هامة إلى موسكو بمجرد دمج النظامين معاً. كما يشكّل تراجع سيادة القانون في تركيا مصدر قلقٍ آخر لهم. ويبدو أن الرئيس رجب طيب أردوغان يلجأ إلى دبلوماسية الرهائن، حيث قامت السلطات باعتقال رعايا أمريكيين-أتراك ذوي جنسية مزدوجة وثلاثة موظفين محليين يعملون في البعثة الخارجية الأمريكية.

وحتى وقت قريب، بدا وكأن الانهيار في العلاقات سيصل إلى نهايته وسط العديد من التطورات الإيجابية: فقد تُوّجت زيارة وزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون إلى تركيا في فبراير/شباط الماضي [بتشكيل] مجموعات عمل ثنائية لمعالجة الشواغل المختلفة؛ كما تم الإعلان عن خارطة طريق لتخفيف التوترات حول مدينة منبج السورية في حزيران/يونيو؛ بالإضافة إلى ذلك تم إسقاط التهم ضد أحد عشر من الحراس الشخصيين السبعة عشر الذين شاركوا في مشاجرة عامة أثناء زيارة أردوغان إلى واشنطن؛ ووفقاً لبعض التقارير، باشر “مكتب التحقيقات الفيدرالي” بالتحقيق في قضية غولن؛ وتمكّنت إدارة ترامب من منع الكونغرس الأمريكي من تطبيق عقوبات على تركيا. إلاّ أن هذا المسار تغيّر عندما رفضت أنقرة الإفراج عن برونسون – قس أمريكي متهم بإثارة الفتنة وجرائم أخرى. ورداً على ذلك، تبنّى البيت الأبيض نهجاً أكثر تشدداً حتى من اقتراح الكونغرس بشأن تركيا.

ومع تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة، قد يلجأ أردوغان إلى حلفاء آخرين. فقد منحت قطر تركيا قرضاً بقيمة 15 مليار دولار قبل عدة أيام، كما تمضي أنقرة قدماً في الجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات مع هولندا وألمانيا. وقد يقرر الاتحاد الأوروبي ترقية إتحاده الجمركي مع تركيا، وربما الضغط على الحكومة لتنفيذ إصلاحات ملحّة مقابل حوافز اقتصادية.

وبالنسبة للعلاقات المستقبلية مع واشنطن، يجب على المسؤولين أن يأخذوا بعين الاعتبار أن الدول هي أكبر من قادتهم، وأن تركيا أكبر من أردوغان. ولا يزال الحوار العسكري الثنائي قوياً، وقد يشكّل جسراً لإصلاح التحالف وتوسيع نطاقه في المستقبل. إلّا أن كل ذلك يعود إلى حجم المعاناة الاقتصادية التي قد يكون أردوغان على استعداد لتحملها بينما يحاول استخدام برونسون كورقة مساومة سياسية.

ماكس هوفمان

تركيا في خضمّ أزمة اقتصادية. ويمكن لبنكها المركزي أن يخفف من هذه الضغوط من خلال رفع أسعار الفائدة، لكن المؤسسة لم تعد تملك الحرية اللازمة لنقض اعتراضات أردوغان على هذه الخطوة.

لقد تم ضمان جزء كبير من الشرعية المحلية لـ «حزب العدالة والتنمية» الحاكم على أساس النمو الاقتصادي الذي تغذيه مشاريع البناء، التي تعتمد بدورها على القروض والائتمانات الأخرى. وبدءاً من التسعينيات، وعندما كان أردوغان عمدة إسطنبول، بنى نظام محسوبية واسع النطاق من خلال تسليم مشاريع كهذه إلى أتباعه، ويدرك اليوم أن هذه الديون وتلك اللاحقة ستستحق قريباً. وحيث توقّع الأزمة الاقتصادية بدءاً من عام 2013، ركّز على إلقاء اللوم على الغرب فيما يخص هذا التراجع، على الرغم من أن جهوده الخاصة للتخلي عن سيادة القانون، والبيروقراطية، والمنافسة العادلة لعبت دوراً رئيسياً في نفور المستثمرين بعيداً عنها.

إلّا أن الولايات المتحدة أثارت أيضاً بعض المشاكل في ما يخص هذه العلاقة من خلال تبني موقف ثنائي القطبية تجاه تركيا. وفي حين التزمت وزارة الدفاع الأمريكية بمقاربتها المعتادة، إلّا أن البيت الأبيض تأرجح بين التواصل مع أنقرة وإعلان العقوبات والتحذيرات القاسية عبر “تويتر”. وفي المرحلة القادمة، من المرجّح أن تقدّم وزارة الخارجية الأمريكية المشورة للرئيس ترامب تتمثل بأنه قد أوضح وجهة نظره وبنى مصداقية لتحذيرات الولايات المتحدة المستقبلية، لذا عليه الآن أن يمتنع عن اتخاذ مزيد من الإجراءات وأن يمنح أردوغان الفرصة لحفظ ماء الوجه. وفي أغلب الظن، من المتوقّع أن يتخذ الرئيس الأمريكي إجراءه التالي قبل جلسة الاستماع المقبلة لبرونسون في 12 أكتوبر/تشرين الأول. ونظراً للنتائج غير المؤكدة لهذه الأزمة، تحتاج الحكومة الأمريكية إلى وضع خطة طوارئ مقابل خسارة تركيا كحليف لها.

إنّ فرض غرامة كبيرة على انتهاك “هالك بنك” للعقوبات المفروضة على إيران ستكون له نتائج وخيمة على الأخص لكل من القطاع المالي التركي وثقة المستثمرين. وسيكون من الصعب إقناع واشنطن بالموافقة على إنقاذ تركيا مالياً بمساعدة “صندوق النقد الدولي”، بما أنّ المسؤولين الأمريكيين قد حذّروا أنقرة بشأن مشاكلها المالية طوال سنوات عديدة. ومن غير المحتمل أيضاً أن تقدّم الحكومات الأوروبية مثل هذه المساعدة – فإلى جانب كونها منشغلة بالمشاكل المالية في إيطاليا واليونان وإسبانيا، فهي تواجه أيضاً معضلة أخلاقية متمثلة في ما إذا كان عليها إنقاذ رجل قوي.

وعلاوة على ذلك، ما زالت أنقرة ترزح تحت عبء الثقل الناجم عن وصول 4 ملايين لاجئ سوري. فإذا استعاد نظام الأسد معقل المتمردين في إدلب، من المحتمل أن يهرب 3.5 مليون شخص آخر إلى المناطق الآمنة التي تسيطر عليها تركيا أو إلى تركيا نفسها، مما قد يؤدي إلى آثار كارثية على استقرار البلاد.

ومن الناحية الجيوسياسية، من المرجح أن تؤدي جميع هذه الضغوط إلى دفع أردوغان بصورة أكثر نحو المواجهة بدلاً من المصالحة. فهو يقول باستمرار إنّ العالم أكبر من “الخمسة” (في إشارة إلى الأعضاء الدائمين في “مجلس الأمن الدولي”)، وإنّ الولايات المتحدة في حالة تراجع. وتتفق معه القاعدة التي تدعمه المؤلفة من المحافظين والقوميين، الذين يعتبرون أن تركيا بحاجة إلى شقّ طريقها نحو الحصول على مركز الدولة العالمية. إن هذه القومية الانفعالية الخطيرة قد حشرت أردوغان في الزاوية، وأصبح الآن بحاجة إلى مَخرج لحفظ ماء الوجه.

ستيفن كوك

يشكّل التحول الجذري الذي قام به الرئيس ترامب فيما يتعلق بالسياسة تجاه تركيا موضع ترحيب. وفي الواقع، يجب على الرئيس الأمريكي أن يمارس المزيد من الضغط الشعبي وفرض التعريفات الجمركية على أنقرة. إنّ المشكلة في العلاقة ليست شخصية ترامب أو أردوغان، بل بالأحرى الحقيقة بأن الحرب الباردة التي كانت تجمع الدولتين معاً لعقود، لم يعد لها وجود، تاركة أنقرة مع دوافع وأولويات لا تتوافق مع واشنطن. لقد كان يُعتقد في الماضي أن تركيا نموذج استراتيجي، وقوّة للسلام والاستقرار في المنطقة. ولكن خلال السنوات العشر الماضية، تحدّثت واشنطن عن تركيا وكأنّها حليف استراتيجي حتى عندما لم تتصرف على هذا النحو. واليوم، لا تنفك أنقرة عن إثارة المتاعب لصناع السياسة في الولايات المتحدة، ولذلك، لا يجب اعتبارها حليفاً بعد الآن.

من الصعب تعليل الحفاظ على العلاقات الوثيقة في ضوء الاختلافات العديدة بين البلدين: فتركيا تعارض العقوبات الأمريكية ضد إيران، وتحاول شراء صواريخ من روسيا، وتشكل تهديداً للمصالح الأمريكية في سوريا، وأصبحت راعية لـ «حماس»، وعدائية بشكل متزايد تجاه اليونان منذ عام 2016. والقائمة تطول: فلا يزال ما بين 15 إلى 20 شخصاً أمريكياً تركياً رهن الاعتقال؛ وشكّلت قضية “هالك بنك” أكبر مخطط في العالم للتهرب من العقوبات المفروضة على إيران؛ ولم تعد المحاكم التركية ووسائل الإعلام مستقلة؛ وتشير استطلاعات الرأي إلى أنّ 80 في المائة من الأتراك يعتقدون أنّ الولايات المتحدة متواطئة في محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 ولها يد في الانهيار الاقتصادي الحالي.

قد تسبّب هذه المشاكل تداعيات فيما يتعلق بالعديد من القرارات السياسية والاقتصادية التي تلوح في الأفق. وفيما يتعلق باحتمال تلقّي المساعدة من “صندوق النقد الدولي”، فقد وافقت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي على معارضة أي مساعدة من هذا القبيل طالما تستمر تركيا في احتجاز برونسون وأشخاص آخرين. فهذه إحدى القضايا القليلة القادرة على حشد دعم الحزبين في الكونغرس الأمريكي المنقسم بشدة – وهذا واقع يجب أن يُقلق أنقرة.

وفيما يتعلق بمنظمة حلف الشمال الأطلسي (“الناتو”)، لا توجد آلية لإخراج تركيا من الحلف، وحتى لو خرجت طواعية، فلن تحدث أي كارثة. وفي هذا الصدد، تُظهر قائمة المشاكل المشتركة بين الولايات المتحدة وتركيا المذكورة أعلاه أنه ليس بإمكان أنقرة أن تفعل المزيد لتعقيد السياسة الأمريكية أكثر ممّا فعلت، إذا لم تعد عضواً في حلف “الناتو”.

أمّا فيما يتعلق بحملة أنقرة المتملّقة التي أطلقتها في أوروبا، فمن غير المرجح أن تقف الحكومات الأوروبية إلى جانب واشنطن في الضغط على أردوغان. فالمخاطر هي أكبر بكثير بالنسبة لأوروبا ممّا هي عليه بالنسبة للولايات المتحدة، حيث أن عدم استقرار تركيا قد يثير متاعب رئيسية للاتحاد الأوروبي.

إيغيكان آلن فاي

معهد واشنطن