شذى خليل*
ينخر الفساد المستشري في جميع المؤسسات والهيئات الحكومية العراقية ، منذ احتلال البلاد سنة 2003 ، حيث باتت الوزارات مصدرا لتمويل الأحزاب السياسية المتنفذة ، فقد طال الفساد أهم الوزارات ، إذ ان الفساد في وزارتي التربية والتعليم العالي ، دليل قاطع على ان الأجيال القادمة غير قادرة على بناء دولة قوية ورصينة ، وسيكون لديها النصيب الأكبر من الجهل والفقر والحرمان .
يدار النظام التعليمي في العراق عبر وزارتي التربية ، والتعليم العالي ، وحسب تقرير اليونسكو ، أن العراق في فترة ما قبل حرب الخليج الأولى ، وتحديداً عام (1991م) كان يمتلك نظاما تعليميا يعد من بين أفضل أنظمة التعليم في المنطقة ، وحاز على جائزتين من المنظمة ، وأوصل البلاد إلى بلاد خالية من الأمية ، بعد أن قام بحملة واسعة لمحو الأمية ، ابتدأت في سبعينيات القرن الماضي ، إذ تقدر نسبة المسجلين في التعليم الابتدائي بما تقارب الـ 100%، كذلك نسبة عالية للقادرين على القراءة والكتابة ، إلا أن الحكومات التي جاءت بعد الاحتلال أهملت التعليم بشكل متعمد خدمة لمصالح قوى إقليمية وعالمية ترى في تقدم العراق خطرا يمنع فرص فرض هيمنتها عليه .
حيث أدخلت ما تسمى التعديلات التي أدت الى تغيير جوهري في مضامين المناهج العراقية لأسباب طائفية ، وظهور مايقارب الـ 80% من نسبة المدارس العراقية (15000 مدرسة) بحاجة لإصلاح ودعم للمنشئات الصحية بها ، كذلك قلة المكتبات والمختبرات العلمية في هذه المدارس .
والظاهرة الأسوأ تمثلت بالمدارس الطينية التي تشكل مثالا صارخا على انهيار النظام التعليمية في العراق ، وقدمت وزارة التربية احصائية عام (2011) بينت أن عدد مدارس الطين في العراق يبلغ أكثر من (1000) مدرسة ، تقع النسبة الأكبر منها في محافظات ذي قار والبصرة والعمارة والمثنى والقادسية والنجف ، تضم حوالي (15000) طالبا ، ويخدم فيها حوالي (7000) معلم/معلمة ، وبالطبع فإن هذا الرقم في تزايد مستمر منذ العام (2003) بشكل كبير ، وازداد الأمر سوءا لاسيما في محافظتي بابل وذي قار ، حيث تنتشر المدارس الطينية بكثرة ، مع العجز الواضح في البنايات التعليمية ، وغالبا ما تبنى مدارس الطين بناء على طلب أهالي المناطق النائية ، بعد توفير الأهالي قطعة أرض لإنشاء مدرسة من الطين ، أو أعواد القصب أو النخيل ، وهنا نسأل الوزير : أين تخصيصات الوزارة من “المليارات” المخصصة من الميزانيات العامة للدولة في ظل البؤس والتدهور لمؤسساتنا التعليمية ونظامنا التعليمي ؟!
يعاني الطلاب في المدارس الطينية من شدة حرارة الجو في الصيف ، وشدة برودته في الشتاء القارس ، فلا وسائل تدفئة ، ولا حماية لهم من تقلبات الجو ، فهبوب الرياح أو الأمطار يثير فزع الطلبة والأساتذة معا ، حيث تفتقر أغلب المدارس في أرياف العراق الى الشروط الصحية اللازمة والخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء ، إضافة إلى انعدام وسائل التعليم الحديث ، ومن المفارقات اعتماد تلك المدارس على الدوام المزدوج ، حيث تستقبل وجبتين من الطلبة يوميا ، في بلد يعوم على بحيرة من النفط ، وثروات لا حصر لها ، إلا أن أعداد الأميين وصلت إلى نحو خمسة ملايين شخص ، بينما يتعلم التلاميذ في بيئة مدرسية غير صحية وملوثة وطاردة للأطفال ، تمثل البؤس والتدهور , وذلك في عصر تأخذ فيه الدول بأسباب التطور ، وتعمل على تعميم استخدام التكنولوجيا الحديثة بدلا من الكتب والدفاتر ، وربطت البلدان تلاميذ الصف الواحد بشبكة مع مجمل المعلمين والقائمين على العملية التربوية والتعليمية ، حيث تنقل المعلومة في جزء من الثانية ، في وقت يتلقى فيه طلاب العراق تعليمهم في مدارس طينية وأخرى مبنية من القصب ، فضلا عن مدارس الأكواخ .
البنية التحتية للتعليم مدمرة في بابل ، إذ أكد رئيس مجلس محافظة بابل “علي الكرعاوي” بأن الحكومة المحلية ارتكبت خطأ فادحا حين قررت هدم بعض المدارس على أمل إعادة بناءها وترميمها بشكل حديث ، مشيرا إلى حاجة المحافظة الملحة إلى أكثر من (500) مدرسة.
الفساد المالي والإداري في وزارة التربية العراقية ، هو الظاهرة التي لا ينكرها أحد اليوم ، فهو مستشري ومستفحل في كل مفاصلها ومؤسساتها ، إذ بدأ مستوى التعليم ينحدر في العراق إلى درجات متدنية خطيرة ، واصبح الحديث عن ملفات فساد يديرها الوزير ، إذ تثبت وثائق عدة تورط وزير التربية “محمد إقبال” بصفقات فساد عدة ، منها مع شركة لبنانية .
وبحسب مصدر مقرب في الوزارة فضل عدم ذكر اسمه أكد أنه تم توجيه دعوة من وزارة التربية العراقية إلى شركة لبنانية تسمى “دار غارنيت” لطبع كتب منهاج اللغة الانكليزية للعام الدراسي (2018) ، وبكمية (24) عنوان كتاب ، بمبلغ قدره (38) مليار دينار عراقي ، وأضاف المصدر ان “هناك شركات عراقية ذات إمكانيات قُيمت من قبل لجان وزارة التربية ، منعت من الإحالة وتمت بشكل مباشر دون فتح مناقصة ، أي أنها إحالة حصرية احتكارية للشركة اللبنانية ، وبذلك تم حرمان الشركات العراقية التي تشغل أيدي عاملة عراقية من المنافسة ، وقد قدمت على نفس المنهاج ونفس العناوين وبمبلغ بلغ العرض من الشركة الأولى (29) مليار دينار ، في حين بلغ العرض المقدم من الشركة الثانية (30) مليار دينار .
وعلى الرغم من وجود حالة من حالات هدر المال العام تقدر (10) مليارات دينار ، إلا أن استمرار إصرار وزير التربية وبالتعاون مع اللجنة المشكلة ، لتقييم الأسعار من قبل الشؤون الادارية ، على إحالة الكتب الى الشركة اللبنانية (دار غارنيت) ، فالوزير المؤتمن على المال العام وتحسين مستوى التعليم وتطوير النظام التعليمي ومستوى المدارس بشكل يليق ببلد الحضارات والثروات خان الأمانة ، حيث تعمد تجاهل إرسال الكتب الرسمية الخاصة بشركة غارنيت الى الجهات الأمنية التي تدقق وضع الشركات الأجنبية ، وبين ان “تقييم اللجنة الخاصة أوضح بأن هنالك هدر بالمال العام يقدر بعشرة مليارات دينار عراقي ، إضافة الى عدة فقرات أبدى تحفظه عليها .
لماذا يتم إهدار مبلغ بهذه الضخامة بلا حسيب ولا رقيب في محاباة وتقرب لشركة أجنبية غير خاضعة للضرائب ؟!
في حين تتم محاربة الشركات العراقية وتكبيلها بالضرائب وحرمان الأيدي العاملة العراقية من فرص العمل ، وهل تسمح أي دولة في العالم ، للشركات العراقية بالاستثمار على أرضها وبدون ضرائب ؟!
هل هو تواطؤ أم عدم فهم أم اشتراك بالجرائم والغنائم ؟!
وبحسب جهاز المخابرات الوطني فان “شركة دار غارنيت”، التي ليس لها فرع معلوم في العراق ، ولا يتجاوز رأس مالها (2500) باوند ، أي ما يقارب (3500) دولار أميركي .
وحملت الوثيقة عنوان : اعلام ، ونصت على ان “كتابكم ذو العدد 4931 ، في 27/2/2017 ، نود بصدده إعلامكم بالآتي :
• لدى تدقيق قاعدة بيانات الشركات الأجنبية المسجلة في العراق لم يتأشر لدينا وجود عنوان أو مقر فرع لشركة (دار غارنيت للنشر التربوي) .
• بعد البحث والتقصي عن الشركة البريطانية “اللبنانية” المشار إليها بالفقرة الأولى أعلاه ، فإنها تأسست في بريطانيا بتاريخ 1/3/1991 ، وهي شركة خاصة ذات مسؤولية محدودة ، تصنف على أنها من الشركات الصغيرة المختصة في مجال طباعة الكتب ، ويديرها كل من “صفاء حافظ الخوري” و “كريم الخياط” و “نادية الخياط” ، ويملكها “تحسين الخياط” وهو نفسه مالك قناة الجديد التلفزيونية اللبنانية ، طبقا للمصدر المطلع .
وليس الفساد في التعليم العالي بأقل منه في التربية ، إذ أقرت عضو لجنة الزراعة البرلمانية “شروق العبايجي” ان الفساد الكبير في وزارة التعليم العالي ، لا يمكن إصلاحه ، لأنه يعني بتهديم البنى التحتية العلمية للبلاد ، إذ شهدت “كلية الزراعة والطب البيطري” التي تخرج منها أجيال تدير قطاعات مهمة بالبلد ، أنها تعاني من فساد مستشري طال حتى الآراضي التي كانت تستخدم لأغراض التجارب والتربية الحيوانية ، والتي يتم توزيعها الآن كأراض سكنية .
ليس هذا وحسب ، فقد تم نقل هذه الكلية من موقعها الأصلي الذي كان منذ عام (1952) والذي بني بمواصفات عالمية ، وعلى أكثر من (640) دونم أبنية حديثة ومجهزة بكافة المستلزمات والتجهيزات ، وبرغم هذا ، فقد تم نقل ستة آلاف طالب الى مجمع الجادرية بكرفانات لا يمكن اعتبارها قاعات للمحاضرات ، وبمواصفات تشكل خطرا على حياة الطلبة وصحتهم ، كما أن الاجهزة الخاصة بتلك الكليات التي تم نقلها بطريقة غير مسؤولة ، وضاع الكثير منها ، وتعرض البعض الآخر الى الضرر تحت اسطح البنايات .
كذلك الكليات الطبية ، التي تم تغيير مناهجها دون وجود أسس او معايير علمية ، إذ توجد (27) كلية بالمجموعة الطبية ، وهناك حاجة ملحة للتحقيق بما يجري فيها ، وخاصة ما يتعلق بالمناهج الطبية ، وهذا الفساد الذي وصل الى التعليم لا يمكن السكوت عنه ، لان هذا معناه إنهاء التعليم بالبلد .
أكد مراقبون وتدريسيون ان من أسباب تدهور واقع التعليم العالي في العراق ، هو هيمنة الأحزاب السياسية على منظومة التعليم العالي ، وسبب الإهمال الحكومي ، تم التوجه نحو القطاع التعليمي الخاص ، وان قرارات وزارة التعليم التي أدت الى هبوط حاد في جودة التعليم في العراق .
ونقلا عن الدكتورة “سهام الشجيري” التدريسية في جامعة بغداد قولها ، إن وصف التعليم بكلمة “تدهور” أقل بكثير مما وصل إليه من تدني ، وانما نحن نشهد انهيار لمنظومة التعليم العالي في العراق ، مؤكدة أن النخبة السياسية هدمت أركان التعليم الأولي والجامعي على حد سواء ، من خلال الكثير من الإجراءات ، أولها عدم الاهتمام بالسياقات العامة ومعايير التعليم الأولي والعالي ، والقضية الأهم أنها لم تضع مؤسسات قادرة على احتواء المدارس أو الاعتناء بالجامعات .
وأضافت “الشجيري” ان الأمر الأخطر انها ذهبت الى التعليم الأولي الأهلي ودعم الأحزاب ، ولم تهتم للتعليم الحكومي الذي يشكل الطبقة العامة والغالبة ، وغير قادرة على دفع تلك المبالغ ، مؤكدة ان الاهتمام أصبح مقتصرا على الجامعات الأهلية ، مضيفة أن القضية الأخطر تتمثل بالصراع السياسي القائم منذ احتلال العراق عام (2003) ، وغض النظر عن تلك المستلزمات الاساسية ، كالتعليم والمياه والكهرباء وغيرها ، وضحيتها الإنسان العراقي .
وانتقدت “الشجيري” لجنة التربية والتعليم في البرلمان بالقول “إنها لجنة خاوية ، لأنها تطالب فقط بأمور لا تحسن من التعليم ، مثل المطالبة بالدور الثالث ، ووضع تعليمات القبول في الدراسات العليا وفق شروط محددة كقبول (100) شخص من جهة معينة ، حيث ان كل جهة تمتلك نسبة وأصبحت توزع حسب الأحزاب والولاءات” ، وقد حشرت وزارة التعليم الدراسات العليا بتوسعات لكل من هب ودب ، وبذلك تعد اساءة إلى الكفاءات ، موضحة أن “التعليم يحصن المجتمع من الكثير من المخاطر كغزو المخدرات والانتهاكات ، وغيرها من الآفات المجتمعية ، مبينة أن “سوء اختيار التدريسيين سببا في فشل التعليم ، والذي قصم ظهر التعليم العالي هي الدروس الخصوصية”.
نستنتج مما تقدم ، ان القائمين على التعليم لا سيما في وزارة التربية ، ومنذ احتلال البلاد ، لم يسهموا ببناء بيئة مدرسية نظيفة وصحية ، بل إنهم لم يتمكنوا من بناء المدارس نفسها ، في وقت تذهب فيه ملايين الدولارات لجيوب الفاسدين ، ويفترش أبناء المستقبل الأرض ، حيث خصصت مبالغ مالية طائلة لقطاع التربية خلال السنوات المنصرمة ، تقدر بعشرات المليارات ، فيما لم يلحظ تطوير ملموس في المباني المدرسية ، ولا في الأثاث والمختبرات ، بسبب تعمد إسناد بناء تلك المدارس والتحديثات إلى فاسدين يستولون على معظم تلك المبالغ ، في ظل تواطؤ واضح من الحكومة في ملاحقتهم .
مستقبل العراق مظلم بسبب حال التعليم الذي تم تدميره بطريقة ممنهجة خدمة لمصالح المتربصين بالبلاد والراغبين في السيطرة عليه من قوى إقليمية وعالمية ، التعليم في العراق بحاجة إلى ثورة ضد الفساد والمفسدين للنهوض به من جديد ، وسيدون التاريخ من أساء للعلم والتعليم في العراق ، ليكون وصمة عار في جبينه .
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية