ها هو في دفتر ملاحظاتي الذي عمره ست سنوات، حياً تماماً، وما يزال يطالب بالسلام مع الفلسطينيين، والسلام مع حماس، بالسخاء وبإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 القديمة -وهو يعتقد بأن إسرائيل يمكن أن تحصل على السلام غداً.
* * *
كان مناسباً بطريقة ما أن تكون الأخبار الأولى التي وصلتني عن محنة أوري أفنيري قد جاءتني عن طريق واحد من ألد أعداء إسرائيل، الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط. إحدى الأساطير يرسل الأخبار الحزينة عن أسطورة آخر، كما ترون، واشتراكي يستعد لنعي زميله الاشتراكي، مرسلاً لي تعاطفه مع الفيلسوف السياسي الإسرائيلي البالغ من العمر 94 عاماً. وكان هذا الفيلسوف نفسه ذات مرة طالب مدرسة ألماني يهودي، اسمه في الأساس هيلموت أوسترمان، والذي رفض تأدية التحية لهتلر في المدرسة -وإنما الذي كان -عندما تلقيت رسالة جنبلاط- ما يزال يشكل “عقلاً لا غنى عنه لفهم تاريخ الفاشية، التي شكلت عنصراً تدميرياً رئيسياً في القرن العشرين”، بكلمات جنبلاط، الذي أضاف أن أفنيري فهم أيضاً “تاريخ الصهيونية، التي هي نظرية خسيسة أخرى للفصل العنصري، والتي هي فرع من الفاشية”.
عانى أوري أفنيري من نوبة قلبية حادة في نهاية الأسبوع قبل الماضي، وتوفي صباح الاثنين، 20 آب (أغسطس)، لكنه كان هو نفسه صهيونياً، أو على الأقل مؤمناً بإسرائيل يسارية شجاعة، وإنما تصنع “ضوءاً (معتدلاً) بين الأمم”؛ من النوع الذين يود الكثيرون منا، في قلوب قلوبنا، أن نؤمن به. كان نوعاً من الإسرائيليين الذي نذهب -نحن الليبراليين نازفي القلب- لنراهم عندما نصل إلى إسرائيل لأنهم يقولون ما نحب أن نسمعه.
“قل لجنبلاط إن عليه تقسيم جملته إلى فقرات”، هكذا قال لي أفنيري بينما أغادر شقته في تل أبيب قبل ست سنوات. “إنه يقول كل شيء في نص واحد طويل بحيث أستطيع بالكاد أن أتنفس”. وهو درس تم إيصاله حسب الأصول إلى جنبلاط من رجل عادة ما كان يكتب فقرات من جملة واحدة، وهي عادة مزعجة لصحافة التابلويد، التي تستقبل رسائله استقبالاً حسناً من حين إلى آخر.
يجب أن أعترف بأن أوري أفنيري كان واحداً من أبطالي الشرق أوسطيين -وهم ليسوا كثيرين- والذي تستحق قصته أن تصبح فيلماً، ولو أنه لن يكون هناك أحد مثل سبيلبيرغ ليقوم بإخراجها: كاتب، صحفي، يساري، محارب قديم في الجيش الإسرائيلي في “حرب استقلال” البلد -والتي كانت، كما لم ينسَ أفنيري أبداً، الحرب نفسها التي أخرجت 750.000 فلسطيني من وطنهم وأرضهم. وقد لعب الشطرنج مع ياسر عرفات خلال حصار بيروت في العام 1982 -كونوا على يقين من أن هذا الحدث سيكون في أول فقرتين من معظم المراثي التي ستُنشر اليوم- وسوف تصل رسائله الإخبارية الغاضبة، وإنما الساخرة بعض الشيء، في أمسيات الجمعة، لتدين نتنياهو على نفاقه وعنصريته، وشارون على كراهيته للفلسطينيين، في الخطابات الآتية من منزل مزدحم بالكتب في تل أبيب، قريب من البحر، وإنما في شارع متواضع هادئ، حيث يمكن لأفنيري أن يتأمل ويهدُر.
كان قد أصبح أصمّ قليلاً عندما التقيت به مرة أخرى -ولآخر مرة- قبل ست سنوات، لكنه تحدث بسرعة كبيرة، وبجمل رائعة، حتى أن قلمي انزلق على صفحات دفتر ملاحظاتي إلى أن نفد من الحبر واضطررت إلى سرقة قلم حبره الخاص. وما يزال ذلك الدفتر لدي، وفيه يتغير اللون من حبري الأسود إلى حبره الأزرق الفاتح عند نقطة عندما كان يتحدث بسرعة كبيرة عن حماس، التي كثيراً ما التقى مع أعضائها، غاضباً من تحوُّل غزة إلى قصة عن الهجمات الصاروخية والانتقام.
“عندما يقرر أي من الطرفين الشروع في إطلاق الناس، فإنه يفعل”، قال لي، وقد غيّر الحبر لونه للتو على الصفحة. “في غوش شالوم (التي أسسها أفنيري)، وضعنا ملصقاً قبل خمس سنوات، يقول: ‘تحدثوا مع حماس’”.
ليس هذا رثاء لأوري أفنيري، حتى مع أن المؤسسة تتمتع بالجدارة الصحفية العظيمة لتستحق قصة ببداية، ووسط، ونهاية؛ لأن تحذيرات أفنيري وبصيرته كانت معاصرة جداً -ومناسبة جداً للأخبار القادمة من الشرق الأوسط- حتى أن بالإمكان تكرارها الآن باطمئنان، اليوم، كما لو أن المحارب اليساري العجوز العظيم ما يزال حياً. وها هو ذا في دفتر ملاحظاتي الذي عمره ست سنين، حياً جداً، وما يزال يطالب بالسلام مع الفلسطينيين، بالسلام مع حماس، بالسخاء وبدولة فلسطينية على حدود 1967 القديمة –خذ أو أعط بضعة أميال مربعة- وهو يؤمن بأن إسرائيل يمكن أن تنال السلام غداً؛ في الأسبوع القادم، فقط لو أراده نتنياهو. كانت عبارة “من سوء الحظ أن أكون متفائلاً عنيداً” هي الطريقة التي وصف بها مأزقه لي. أو ربما ساحر وهم؟
كانت عائلته قد هربت من ألمانيا النازية إلى فلسطين، وذهبتُ لرؤيته مرة أخرى –هو الذي كان قد لعب الشطرنج مع عرفات- بعد مذبحة العام 1982، التي سقط فيها أكثر من 1.700 فلسطيني في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين في بيروت، وهي جريمة حرب ارتكبها حلفاء إسرائيل من حزب الكتائب المسيحي بينما راقب الجنود الإسرائيليون، وإنما لا يتدخلون. وقد مشيت بين الجثث في المخيمين. كيف سمح الناجون من المحرقة اليهودية وأولادهم بأن يحدث هذا للفلسطينيين، سألت أفنيري؟ كان عمره 63 عاماً في ذلك الوقت. وتستحق إجابته التدوين، بالكامل:
“سوف أخبرك شيئاً عن المحرقة. سيكون من الجيد الاعتقاد بأن الناس الذين جربوا المعاناة يكونون قد تطهروا بالمعاناة. لكن العكس هو الصحيح، إنها تجعلهم أسوأ. إنها تُفسد. هناك شيء في المعاناة يخلق نوعاً من الأنانية. كان هيرتزوغ (الرئيس الإسرائيلي في ذلك الوقت) يتحدث في موقع معكسر الاعتقال في بيرغن-بيلسن، لكنه تحدث فقط عن اليهود. كيف لم يستطع أن يذكر الآخرين -الآخرين الكثيرين- الذين عانوا هناك؟ إنهم أناس مرضى، عندما يكونون متألمين، لا يستطيعون التحدث عن أحد سوى أنفسهم. وعندما تكون مثل هذه الأشياء الوحشية قد حدثت لشعبك، فإنك تشعر بأنه ليس هناك شيء يمكن أن يقارن بها. إنك تحصل على ‘توكيل’ أخلاقي؛ على رخصة بأن تفعل ما تشاء -لأن شيئاً لا يمكن أن يقارن بما حدث لنا. هذه حصانة أخلاقية يمكن الشعور بها بوضوح في إسرائيل. الجميع مقتنعون بأن جيش الدفاع الإسرائيلي هو أكثر إنسانية من أي جيش آخر. كان ‘طهارة السلاح’ هو شعار جيش الهاغاناة في 48. لكنه لم يكن صحيحاً على الإطلاق”.
وكان أفنيري عضواً في ذلك الجيش نفسه، وأصيب بجرح بليغ في حرب 1948؛ بل إنه أصبح عضواً في الكنيست، لكنه تلقى تهديدات من الحكومة الإسرائيلية بعد أن التقى بياسر عرفات في بيروت. وقال الوزراء الإسرائيليون إنه يجب أن يُحاكم بتهمة الخيانة. وأعتقد أن أفنيري كان فخوراً بذلك. كانت شخصيته الخشنة، المتوفزة، الشجاعة تتحمل اعتناق الاستشهاد السياسي العرَضي، وهو شيء يخشى كل الاشتراكيين المعاصرين تقريباً مجرد تأمله.
قبل ست سنوات عندما رأيت أفنيري، وحتى الأيام التي سبقت وفاته، أغضب نتنياهو الجندي الإسرائيلي العجوز من حرب 1948. ما الذي أريد من حرب غزة أن تحققه، سألته في العام 2012 -لأنها كانت هناك دائماً “حرب غزة” فقط في تاريخ إسرائيل الحديث، والتي قتلت آخرها في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام 107 مدنيين فلسطينيين، وأربعة مدنيين على الجانب الإسرائيلي من الخط. وما الذي كان نتنياهو وحكومته -في ذلك الحين، وكما أفترض، اليوم- يفعلونه؟ سألته.
لمعت عينا أفنيري وأطلق إجابته سريعة: “إنك تفترض أنك تعرف ما يريده (نتنياهو وحكومته) وتفترض أنهم يريدون السلام -ولذلك فإن سياستهم حمقاء ومجنونة. لكنك إذا افترضت أنهم لا يلقون بالاً للسلام، وإنما يريدون دولة يهودية من البحر المتوسط إلى نهر الأردن، فإن ما يفعلونه عندئذٍ سيبدو لك معقولاً إلى حد ما. المشكلة هي أن هناك، في هذه المنطقة التي تهيمن عليها الآن إسرائيل الآن، نحو 49 في المائة من اليهود و51 في المائة من العرب -وسوف يصبح اختلال هذا التوازن أكبر في كل عام لأن الزيادة الطبيعية في الجانب العربي أكبر بكثير من الزيادة الطبيعية في جانبنا. وهكذا، فإن السؤال الحقيقي هو: إذا استمرت هذه السياسة، أي نوع من الدولة ستكون؟ كما هو حالها اليوم، هي دولة أبارتهيد، فصل عنصري كامل في المناطق المحتلة وفصل عنصري متصاعد في داخل إسرائيل -وإذا ما استمرت، فسوف تكون هناك دولة فصل عنصري كامل في كل البلد، بلا شك”.
وواصل أفنيري سرد أطروحته بقتامة. إذا تم منح السكان العرب حقوقاً مدنية، ستكون هناك أغلبية عربية في الكنيست، وسيكون أول شيء سيفعلونه هو تغيير الاسم، “إسرائيل، وتسمية الدولة “فلسطين”، وستكون كل الممارسة (الصهيونية) برمتها على مدى 130 عاماً الماضية قد انتهت إلى لا شيء”. وسوف يكون التطهير العرقي الشامل مستحيلاً في القرن الواحد العشرين، كما أكد لي أفنيري. وأنا أتساءل.
كان يفكر في كثير من الأحيان في زوال “اليسار” الإسرائيلي -إنهم “في حالة سبات”، كما قال بعد أن عاد إيهود باراك، زعيم حزب العمل (الإسرائيلي) من محادثات كامب ديفيد في العام 2000 كزعيم معلَن ذاتياً لـ”معسكر السلام”، “وأخبرنا بأنه ليس لنا شريك للسلام”. كانت هذه ضربة قاتلة. لم يكن نتنياهو هو الذي قال هذا، وإنما زعيم حزب العمل. كانت هذه نهاية “السلام الآن”.
ربما يجب أن تُكتب كلماته الآتية على قبر أفنيري: “عندما التقيت بعرفات في العام 1982” -وقد قابله ثانية مرات كثيرة- “كانت الشروط كلها هناك. كانت الشروط الفلسطينية القصوى والدنيا هي نفسها: دولة فلسطينية بجوار إسرائيل، تضم الضفة الغربية، وقطاع غزة والقدس الشرقية كعاصمة، مع تبادلات صغيرة في الأرض، وحل رمزي لمشكلة اللاجئين. لكن ذلك يستلقي على الطاولة مثل زهرة ذابلة…”.
ظل أفنيري مقتنعاً بأن حماس سوف تقبل بالشيء نفسه. وقد حاضر فيهم في غزة في العام 1993، “بينما أقف هناك، في مواجهة 500 من الشيوخ ذوي اللحى السوداء، متحدثاً إليهم بالعبرية -صفقوا لي ودعوني لتناول الغداء”. بالنسبة لهم، كما فسر أفنيري، فإن فلسطين هي “وقف” لا يمكن التنازل عنه، لكن الله يمكن أن يقر هدنة. “إذا عرضوا هدنة لمدة 50 عاماً، فإن هذا كافٍ لي شخصياً”. من المؤكد، كما قال، أن ميثاق حماس يريد تدمير إسرائيل. “لكن إلغاء ميثاق واضح هو شيء يصعب فعله -هل ألغى الروس أبداً البيان الشيوعي؟ منظمة التحرير فعلت بميثاقها”.
وراء حينذاك، في العام 2012، ختمتُ تقريري عن أفنيري الذي كان يبلغ من العمر 89 عاماً بملاحظة أن “هناك أكثر من مجرد بضعة ليبراليين في إسرائيليين ممن يأملون أن يعيش أفنيري 89 عاماً أخرى”. وهناك الآن ليبراليون أقل بالتأكيد تبقوا في إسرائيل، وقد عاش أفنيري أقل من 6 سنوات أخرى. كان من المفترض أن تقام حفلة لذكرى ميلاده الخامسة والتسعين في تل أبيب في الشهر المقبل. وإذا ما أقاموها، مع ذلك، أصدقاء أفنيري -وأعداؤه- فإنهم يجب أن يعلنوا أن أفنيري قد مات. لكن عليهم أن يضيفوا عندئذٍ: فليعش أفنيري.