محمد الجوادي
كانت الثورات العربية المضادة تعول على الإمكانات المادية المتوفرة لها في فرض ما تريد فرضه من مفاهيم سياسية “عتيقة ” تتعلق بتجريم الثائرين وتشويه أهدافهم، والترهيب من تحركاتهم؛ فإذا بالآية تنقلب عليها تماما، وعلى مدى سنوات معدودة.
فخلال فترة وجيزة حدث عكس ما خططت له هذه الثورات المضادة، بل تكرست مفاهيم كفيلة بتجريم فكرة الثورات المضادة وحصارها، ومن ثم إصابتها بالتحلل الداخلي المتسارع رغم تضاعف تمويلها المتدفق، فضلا عن اضطرارها المتكرر إلى ما يسهل وصفه بأنه الإكثار من المعاداة لثوابت الأمة والعبث غير المسئول بعناصر الاستقرار الاجتماعي ومن ثم عملها الآلي (والذي لم تنتبه لخطورته) على نقض البنية الاجتماعية والاقتصادية لمجتمعاتها وما يرتبط بهذا النقض من حتمية تدمير عدد لا بأس به من المكتسبات الاقتصادية والتنموية فضلا عن الموروثات الحافظة للمجتمع والمحافظة على كيانه السياسي.
بعد هذه المقدمة الموجزة للفكرة المكثفة نسارع إلى دراسة النمط التطبيقي بأن نقفز مباشرة إلى التأمل في طبيعة الآليات المحدثة لبعض النتائج العكسية التي أفرزتها عدد من أبرز وأشهر المحاولات الدفاعية المستميتة والدائبة التي تبنتها الثورة المضادة وعملت من أجلها بفعاليات جادة ومبرمجة ومدروسة في الصعيدين الإعلامي والدبلوماسي:
“بدأت الثورة المضادة بالحرص “الشعبوي” على وصف طلائع ثورات الربيع العربي بأنها حركات مشبوهة ممولة من الخارج وأنها لا تخدم إلا أجندات أجنبية معروفة وظلت حملات الثورات المضادة تلعب على هذا الوتر الحساس بتنويعات لحنية مختلفة لم تتورع عن توظيف الدين بكل طريقة”
أولا: بدأت الثورة المضادة على سبيل المثال بالحرص “الشعبوي” على وصف طلائع ثورات الربيع العربي بأنها حركات مشبوهة ممولة من الخارج وأنها لا تخدم إلا أجندات أجنبية معروفة وظلت حملات الثورات المضادة تلعب على هذا الوتر الحساس بتنويعات لحنية مختلفة لم تتورع عن توظيف الدين بكل طريقة، وعن استدعاء الشعور الوطني بكل نفير وفي كل شهيق وزفير، كما لم تتورع عن تلفيق الاتهامات وترويج الشائعات وتوظيف الاقتباسات والتنبيه إلى التمويلات واللقاءات.. الخ.
ثم كانت المفاجأة المذهلة أن ذهبت وفود هذه الثورات المضادة بكل وضوح (ومن باب التهذيب فإننا لا نكرر الوصف الشائع…) وبكثافة وإلحاح للخارج نفسه لتقدم نفسها في صورة أقرب إلى صورة استجداء العمالة ولتقول للغرب: إن ثورات الربيع تستهدف في نهاية الأمر استعادة الهوية (والذاتية والإصالة والتاريخ)، ومن ثم فإنها ترنو إلى إعادة الخلافة الإسلامية بل تعمل على إعادة هذه الخلافة التي ستكون بكل التأكيد مزعجة لكم؛ ومنتقصة من توظيفكم لنا في خدمة أهدافكم الإمبريالية والتوسعية المتعارف عليها، والتي رضيت بها وأقرتها نظم عميلة أخلصت لكم على مدى عقود ماضية.
ومع ما بدا للثورة المضادة من أنها أجادت استخدام هذين النقيضين والمراوحة بينهما في ظرفين مختلفين؛ فإن ثورات الربيع العربي هي الأخرى استفادت -ومن دون تخطيط منها- من النقيضين وكانت استفادتها أكثر جدوى، ذلك أنها اكتسبت من النقيض الأول صورة قد تكون مبالغا فيها من حيث درجة الاتصال الوثيق بالقوى العظمى، وهي صورة كانت كفيلة بأن تشجع جموعا لا بأس بها من الجماهير المترددة أو الأغلبية الصامتة على الانضواء -ولو متأخرا- تحت راية ثورات الربيع، وبأن تقلل إلى حد كبير من الخوف من معقبات أو عواقب مثل هذا الانضواء الذي بدا في العقود السالفة خطرا مؤكدا.
وكذلك فقد استفادت ثورات الربيع من النقيض الثاني دعاية ضخمة وغير مسبوقة ومتمتعة بمصداقية عالية لأنها جاءت صادرة بوضوح عن عدوها لتؤكد على تمتعها بعنصري الأصالة والولاء وكل ما يرتبط بهذين العنصرين من سمات محببة إلى نفسية كل وطني بسيط وعقلية كل وطني منشغل بالهم العام.
ثانيا: على صعيد آخر فقد وجدت مجموعة الثورات العربية المضادة نفسها مضطرة -من أجل تحقيق قبول غربي في أوساط معينة- إلى أن تلصق صفة الإرهاب بكل الجماعات السياسية التي بدا أنها قد استفادت من حالة الدمقرطة (أو التحول الديموقراطي) التي استحضرتها أو استدعتها ثورات الربيع إلى واجهة المشهد السياسي، وفرضتها على طبيعة ممارسته للسياسة بعيدا عن سطوة العسكر والمخابرات وأمن الدولة والدولة العميقة.
وجاء هذا الإلصاق المتجني على الحقيقة وعلى الواقع بعد أن مارس العسكر الممول بإلحاح من الثورات المضادة أقصى درجات انتهاك الديموقراطية بكل ما يعنيه هذا الانتهاك من إلغاء للدستور واحتقار للصندوق، وبعد أن زجت مدرعات العسكر بكل السلطات الشرعية وراء القضبان، وبعد أن خلت للثورات كل ساحات التصريحات الصحفية والفضائية والسياسية كما دانت له ساحات الادعاء والقضاء، وتواطأت معه قوى غربية يمينية معادية للإسلام كدين وكحضارة وكوجود (وذلك تطبيقا لمفهوم البحث عن ثنائية جديدة بعد زوال الشيوعية).
لكن طبيعة وفلسفة المعرفة الكونية الجديدة (الكفيلة أوتوماتكيا بفرض الصواب وانجلاء الأكاذيب) سرعان ما فرضت نفسها ومنطقها بل ومنطوقها، وسرعان ما أبانت وجه الحقيقة في أن أصحاب الثورات المضادة هم أنفسهم الذين مارسوا الإرهاب فيما يعتبره الغرب أبشع وأخلد صوره في ١١ سبتمبر/أيلول 2001.
وهكذا استطاعت أميركا أن تصدر ما عرف بقانون جاستا في عهد الرئيس باراك أوباما نفسه بكل ما عرف به من تحفظ وتؤدة، وبكل ما عرف عن عهده من هدوء وإرجاء.. وكان التفسير المنطقي الوحيد لهذا الإسراع -أو حتى النزق- الأميركي غير المعهود في إصدار مثل هذا التشريع الغريب -ولا نقول الشاذ- هو أنه كان بمثابة رد فعل منضبط معمليا نتيجة لضغوط ملحة وممولة من دولتين عربيتين ضد جماعة سياسية مؤثرة وذات تاريخ كانت في لحظة إصدار قانون جاستا تعاني من أسوأ حالة كارثية تعرضت لها جماعة سياسية على مدار التاريخ المعاصر.
“الرئيس المصري المنتخب في ٢٠١٢ كان هو نفسه زعيما للمعارضة البرلمانية فيما بين ٢٠٠٠ و ٢٠٠٥، وفي تلك الفترة لم يكن الأمير الذي دفعت به الثورة المضادة لصدارة الحكم بالسعودية قد أتم تعليمه الثانوي؛ ما يعني أن مساحة التغيير التي أحدثتها الثورات المضادة على أرضها هي تجاوزت أقصى ما حققته ثورات الربيع العربي”
وبمنطق الاستثمار السياسي البحت فإن المستثمر المخضرم ينتهز فرص إلحاح المشتري على الإنفاق في شراء منتج جديد قبل أن يبحث عن تلبية رغبته الشاذة والملحة وغير الإنسانية في إدانة مظلوم أو جرح ميت أو الإجهاز على جريح.
ثالثا: كانت الثورات العربية المضادة حريصة على أن تؤصل لوضعية سياسية وقانونية كفيلة بنزع الشرعية عن أي تغيير محتمل لمسار التعاقب على السلطة الحصرية في بلادها، فإذا بهذا الحرص نفسه ينقلب بين ليلة وضحاها إلى أقصى ما يمكن من انقلاب في الترتيب مستدعيا للصدارة من يقع أفضل رقم لترتيبه الطبيعي فيما بعد المائتين بكثير، وذلك ليقفز إلى الترتيب الثالث فالثاني مباشرة، وهو الأمر الذي أثار على سبيل المثال ذهول المراقبين البريطانيين -والواعين للبروتوكول الملكي البريطاني- الذين يعرفون ترتيبا صارما لانتقال العرش، ويتداولونه بكل وضوح، حتى في التعليقات المعرفة بصور الأسرة المالكة حين يضعونه كرقم ترتيبي بين قوسين بعد اسم أي من الأمراء والأميرات المحتمل أن يؤول إليهم العرش.
وهكذا فإن قرارات تيار الثورات المضادة التي رعاها النظام العربي الحريص على وصف نفسه بالمحافظة المفرطة أو التقليدية الصارمة سرعان ما دفعها إلى ما فوجئ به المراقبون حين وجدوها تلجأ فجأة -من أجل ما تصورته تقوية لنفوذها وقدرتها على محاربة تيار الربيع العربي- إلى انقلاب داخلي غير مسبوق -وغير مبرر الصورة- يفوق في نتيجته الفعلية أو العملية ما أمكن أن تحققه ثورات الربيع العرب من إعادة لترتيب لهياكل السلطة.
وعلى سبيل المثال فإن الرئيس المصري المنتخب في ٢٠١٢ كان هو نفسه زعيما للمعارضة البرلمانية فيما بين ٢٠٠٠ و ٢٠٠٥، وفي تلك الفترة نفسها لم يكن الأمير الذي دفعت به الثورة المضادة إلى صدارة الحكم في المملكة قد أتم تعليمه الجامعي بل الثانوي. وهكذا فإن مساحة عملية التغيير التي أحدثتها الثورات المضادة على أرضها هي تجاوزت (من حيث المساحة والمدلول) بكثير أقصى ما حققته ثورات الربيع العربي.
المصدر : الجزيرة