يمر العراق بأزمة طاحنة أشعلت غضب مواطنيه وجعلتهم يخرجون في مظاهرات في الفترة الأخيرة منددين بالفساد والمحسوبية. فهل يتفوق الغضب على الطائفية التي ضربت بجذورها في الأعماق؟
بغداد – يغضب الناس لأسباب شتى، بعضها تافه، مثل أن يعترضك شخص ما بسيارته على الطريق السريع، وبعضها جادّ وخطير، مثل استمرار الفساد في العراق دون أن يبالي أحد لصرخات المظلومين.
وكان استطلاع أجرته مؤسسة غالوب الدولية خلص إلى أن العراقيين أكثر الشعوب العربية غضبا، حسب استطلاع للرأي شمل أكثر من 142 دولة. وأعرب 49 بالمئة من العراقيين عن مشاعر الغضب.
وتصدّر العراق بذلك للمرة الخامسة على التوالي قائمة أكثر الدول التي عاش مواطنوها تجارب سلبية بالنظر إلى وضع المعيشة والمشاكل الصحية.
وذكر التقرير أن مؤشر العراق السلبي يعود بالأساس إلى النسبة المرتفعة للعراقيين الذين أعرب 63 بالمئة منهم عن مشاعر الخوف، و60 بالمئة عن الألم الجسدي، في حين قال 59 بالمئة منهم إنهم يشعرون بالإرهاق و57 بالمئة بالحزن.
ويرتكز مؤشر غالوب للتجارب السلبية والإيجابية على معايير غير ملموسة منها المشاعر والأحاسيس التي لا تأخذها الدراسات الاقتصادية بعين الاعتبار.
ويرجع عراقيون أسباب هذا الغضب إلى حالة عدم الاستقرار والصراعات المستمرة، حيث قال شاب (26 عاما) “إنه الشعور بالظلم في بلد كان آمنا ومزدهرا وغنيا وفجأة وبفعل فاعل وتواطؤ يدمر…”.
وتساءل جعفر (معلم) “متى سينصفنا العالم؟ سيبقى كل العراقيين يشعرون بأنهم ضحايا وسينقلون شعورهم الجمعي هذا لأبنائهم وأحفادهم لأجيال وأجيال وسنتوارث الشعور المرير عبر اللاوعي الجمعي للشعب العراقي بل سننقل شعورنا بالظلم هذا من خلال جيناتنا”، وأضاف “للأسف يفتقر العراق لثقافة العلاج النفسي بعد الصدمة أو بعد الحروب”.
يقول الطبيب النفسي ريكان إبراهيم إن “الغضب حالة ممكنة في حياة الناس والإنسان يمارسه في حياته، فهو كتلة غير متجهة، حسب (التعبير الفيزيائي) وعندما تكسب الاتجاه نحو شيء أو نحو إنسان أو كائن آخر تصبح قوة لأنها كتلة اكتسبت الاتجاه”.
ويضيف أن لغة الغضب حالة لا تتحمل الانتقام فكل انتقام يكون مسبوقا بغضب ولكن ليس كل غضب يقود إلى الانتقام، شارحاً أن الانتقام لا يحدث نتيجة الغضب إلا إذا اُسيء تفسيراً أو أحسن تفسير الغضب من قبل الفص الجبهوي الأمامي من الدماغ لأنه مركز التفكير وما لم تحدث حالة فهم للغضب فإنه لا يتحول إلى انتقام، لأن كل غضب أو انتقام يجب أن يكونا مسبوقين بحالة إحباط.
إن نظام تقاسم السلطة الطائفي والعرقي في العراق بتوزيع المناصب العليا والمناصب الحكومية بين المجموعات الطائفية والعرقية المختلفة، بهدف ضمان تمثيل هذه الطوائف في الحكم والتقليل من احتمالية نشوب صراع مجتمعي وضمان المشاركة العادلة في الموارد بين هذه المجتمعات، ولكن على الرغم من هذه الأهداف “النبيلة”، فإنَّ هذا النظام لم يؤد إلا إلى عواقب وخيمة؛ إذ سمح بتحالفات غير صحية بين الدين والسياسة .
يحتوي العراق البالغ عدد سكانه 36 مليون على جماعات دينية وعرقية أساسية إلى جانب ما لا يقلّ عن 11 أقلية عرقية ودينية ولغوية.
يعني هذا أن علاقة المواطنين العراقيين بدولتهم تكون عبر طوائفهم الدينية والعرقية، ما يمكّن النخب السياسية العرقية أو الطائفية من اختطاف تمثيل هذه المجتمعات.
وكانت أوساطٌ علمية عدّت اكتشافَ فريق من جامعة جنيف، مؤخراً، مناطق في الدماغ تسجّل نشاطا متسارعا في حالة الغضب وتخلق نزعة الانتقام، وكيف يقمع الدماغ نزعة الانتقام الناجمة عن هذا النشاط، بأنه يُعادل فتح كوَّة على “منطقة رمادية” تتعلق بغموض عمل الدماغ.
وكان الطبيبان النفسيان العراقيان ريكان ابراهيم وحسين سرمك حسن شككا بنتائج الدراسة، مؤكدان أن هذا الاكتشاف قديما وكان معروفا في العراق منذ أكثر من أربعين سنة، وأنه واحد من البحوث النفسية المبكرة.
وكان الباحثون في جامعة جنيف طوّروا لُعبة اقتصادية يواجه فيها المُشارك سلوكا قويما وعادلا مِن اللاعب الأول واستفزازات ظالمة من لاعب ثان، ثم حدَّد هؤلاء الباحثون، مِن خلال تصوير المُخ، المناطق، التي نشطت وتفاعلت بقوة كلما شعر المُشارك في الدراسة بالظلم والغضب.
والمقصود باللاعب “المُشارك”، الذي تجري عليه الدراسة، في حين أن اللاعبَين الآخَرَين مُتعاونان في إعداد الدراسة.
في المرحلة الثانية، أعطى العلماء لهذا الشخص (الذي شعر بالظلم والغضب) الفُرصة والإمكانية للانتقام، مع تصوير المخ. وهكذا، حدّد الباحثون الموقع الدقيق في الدماغ، الذي يقوم بالآلية، التي تقمع العمل الانتقامي، وهذه تقع، تحديدا، في قشرة المخ الأمامية للجبهة، وقد خرج الباحثون بخلاصة هي أنه كلما كانت هذه المنطقة أكثر نشاطاً خلال مرحلة الاستفزاز، كان المشارك أقلّ نزعة من باقي المشاركين للانتقام.
وتلعب الطوائف دور قشرة المخ الأمامية للجبهة التي تكبح الغضب وتلغي الانتقام. ويمكن قراءة هذه النتائج في مجلة “ساينتيفك ريبورتس” وجاء نشرها عقب ندوة علمية عقدتها جامعة جنيف العريقة، التي تأسست قبل 460 سنة (عام 1559).
وتشبه الحالة العراقية ما توصلت إليه الدراسة العلمية مؤخرا إذ تلعب “الطوائف الدينية ” دور قشرة المخ الأمامية للجبهة التي تكبح غضب العراقيين وتلغي انتقامهم ممن تلاعب بثرواتهم وسرقها.
من جهته يؤكد الطبيب النفسي حسين سرمك أن ما سمي اكتشاف فريق سويسري “أعرفه، منذ أيام دراستي العليا في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وهي: أنّ في الدماغ 4 فصوص منها الفص الأمامي أو الجبهي frontal lobe وفي هذا الفص مناطق عدة تسيطر على وظائف الإنسان العقلية والسلوكية والانفعالية من أهمها الفص القطبي (prefrontal) وهذا الفص أو الأدق الفُصيص له واجبات كثيرة تتعلق بالذاكرة والكلام والمنطق وغيرها ولكن من أهم واجباته هو (الردع الاجتماعي) بمعنى ردع العدوان ومنع السلوكيات غير الملائمة اجتماعياً.
ويبيّن أن هذا الفُصيص إذا أصيب بورم فإن أول علاماته هو بدء الشخص بطرح نكات بذيئة مثلا في مكان غير مناسب أو سرعة الاستثارة والعدوان اللفظي والجسدي.. إلخ)، أي أنّ دور قشرة المخ الأمامية في منع العدوان وتاليا السيطرة على حوافز الانتقام معروف.
تفتقر معظم الأحزاب السياسية التي أنشأتها النخب من الطائفية إلى البرامج الاجتماعية أو الاقتصادية. ويؤدّي هذا الأمر إلى المحافظة على شبكات المحسوبية على حساب الدولة؛ ما يُضعف قدرة مؤسسات الدولة على تقديم الخدمات، وتعزيز اعتماد المواطنين على مثل هذه الشبكات.
لقد وصلت إخفاقات نظام تقاسُم السلطة إلى نقطة حرجة في العراق، وأدّت عيوبه إلى انهيارات في الخدمات العامة، وشلل سياسي قومي، وزيادة الفساد. فخرج مواطنوه إلى الشوارع للمطالبة بإنهاء ممارسات الحكم الفاسدة لقادتهم السياسيين.
ونتيجة لذلك يواجه الكثير من العراقيين مستويات من الظلم والفقر بصرف النظر عن طائفتهم أو عرقيتهم. ويحول انتشار المصالح الطائفية في الحكومة دون تطوير أي استراتيجية حقيقية للتنمية الوطنية.
وقد أدى عدم التوازن في توزيع الثروة والخدمات إلى توليد استياء بين العديد من العراقيين. ووصل هذا الاستياء إلى نقطة الغليان. وعام 2016 صنّف العراق في المركز 166 من أصل 177 دولة في مؤشر الشفافية الدولية العالمي.
لقد سئم العراقيون من تدهور مستوى حياتهم. في يوليو الماضي سمعت أصوات الاعتراض في مدينة البصرة، أهم مدن جنوب العراق، التي تحتوي على بعض من أكبر حقول النفط في البلاد، ويسكنها 2.6 مليون إنسان، عندما خرج الآلاف إلى الشوارع اعتراضًا على انقطاعات الكهرباء في وسط حرارة الصيف القائظ.
زادت المظاهرات، التي بدأت في الأحياء الفقيرة. وسرعان ما رفع المتظاهرون سقف طلباتهم من المطالبة بالخدمات الأساسية إلى المطالبة بإصلاح الحكومة ومراجعة نظام تقاسم السلطة الطائفي.
لم يتحد المتظاهرون سلطة الدولة فحسب، وإنما أيضا شرعية الأحزاب السياسية التي ينظر إليها باعتبارها محتلّة ومتحكمة في هذه الدولة. وبينما نادى الكثيرون بإنهاء نظام تقاسم السلطة الطائفي، فإنَّ أحدا لم يقدّم أي خطة لتحقيق هذا الهدف. وكانت المظاهرات الغاضبة التي اندلعت مدفوعة بالشعور بالحيف.
ومع ذلك، فالحقيقة أنه على الرغم من غضب النشطاء العراقيين من الزعماء السياسيين في بلدهم، فهم لم يسعوا إلى خلق منصة موحّدة لمطالب قومية تتعامل مع مشكلات كل المواطنين.
أدّت حركات التظاهر في العراق ضد سلوك القادة الطائفيين، للحظة وجيزة إلى شعور بالتمكين واحتماليات لإمكانيات التغيير. على أنَّ تحديات الابتعاد عن أنظمة تقاسم السلطة هائلة، لا سيما في وسط العاصفة الطائفية التي تعيد تشكيل المنطقة.
العرب