صرح مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون أن بلاده ستكون قادرة على شن هجمات إلكترونية وهجمات إلكترونية مضادة بشكل أكثر حرية، بموجب استراتيجية أمنية إلكترونية جديدة وقعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمواكبة تطورات الحرب السيبرانية، التي استنفرت مختلف الحكومات للاستعداد للتصدي لها، حيث أعلنت بريطانيا أيضا عن تكوين جيش إلكتروني يكون قادرا على مواجهة التهديد الروسي ومختلف مصادر التهديد الرقمي من دول وأنظمة وحتى جماعات إرهابية.
واشنطن – تم التخلي منذ فترة عن القول إن الفضاء السيبراني “خرافة رقمية”، ولم يعد الحديث عن الهجمات الإلكترونية والحروب السيبرانية مواضيع أفلام هوليوودية، بل أصبحت حقيقة راسخة وملموسة، فالحكومات في العالم الآن بصدد تطوير طرق أذكى لفرض سلطتها في الفضاء السيبراني في محاولة للسيطرة على تدفق المعلومات وتنظيمها والتصدي للهجمات الخارجية.
أحدث استراتيجية في هذا السياق، خطة الأمن القومي الإلكتروني التي وقعها، الخميس الماضي، الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وإعلان بريطانيا عن عزمها تكوين جيش إلكتروني، ويمتد الأمر ليشمل حكومات من مختلف أنحاء العالم، كما سبق ورفع حلف شمال الأطلسي (الناتو) درجة خطر الهجمات الإلكترونية إلى العدوان العسكري.
وكشفت تقارير أن وكالات المخابرات بصدد إجراء أكبر تعديلات في تاريخها لزيادة التركيز على عمليات الإنترنت ودمج المبتكرات الرقمية في جمع المعلومات. وتتصدر روسيا، بالإضافة إلى كوريا الشمالية وإيران والصين، قائمة الدول “المتهمة” بشن هجمات سيبرانية على الولايات المتحدة وأوروبا، كما دخلت الجماعات الإرهابية على جبهة هذه الحرب أيضا.
حرب مفتوحة
يقول آدم سيغال في كتابه “النظام العالمي المقرصن” إن “الإنترنت استهلت عهدا جديدا من المناورة الجيوسياسية”، مشيرا إلى أن الحكومات باتت تستخدم الشبكة العنكبوتية من أجل شن الحرب والتجسس على بعضها البعض، فإسرائيل مصممة على تعطيل برنامج إيران للأسلحة النووية، والهند تريد منع “الإرهابيين” الباكستانيين من استخدام هواتف بلاكبري لتنسيق الهجمات، والبرازيل لديها خطط لمد كوابل ألياف جديدة وتطوير روابط بالأقمار الصناعية حتى لا تجبر حركة المرور على الإنترنت على المرور من ميامي، والصين من جانبها لا تريد أن تكون تابعة للغرب في ما يخص حاجياتها التكنولوجية.
ومثل أي حرب تطرح المواجهة السيبرانية إشكالية “المدنيين الضحايا”، فرغم أن هذه الصراعات الرقمية لا تمثل أي تهديدات مادية (لم يمت أي أحد جراء هجمة على الإنترنت) إلا أنها تستخدم لتهديد سلامة المنظومات المعقدة والدفاع عنها مثل شبكات الكهرباء والمؤسسات المالية والشبكات الأمنية، علاوة على الرقابة واختراق البيانات من جهة والقرصنة والهجوم الفيروسي الذي قد يؤدي إلى تعطيل حياة المدنيين، التي أصبحت تعتمد أكثر فأكثر على الإنترنت، ناهيك عن التأثير في السياسة وفي صعود أنظمة وسقوط أخرى، بل وحتى التأثير في المنظومة العالمية برمتها.
توفر شبكة الإنترنت حاليا الربط لقرابة 2.7 مليار من البشر في كافة أرجاء العالم، وقد يؤدي ازدهار الاهتمام بـ”إنترنت الأشياء” إلى ربط 75 مليار جهاز بالشبكة العالمية للمعلومات وذلك بحلول سنة 2020، وهذا يعني فضاء مفتوحا ودون حدود، يمكن التحرك فيه بكل سهولة، ودون ترك أثر واضح، مثلما يحدث في العالم المادي، لضرب المنشآت الحيوية لدولة ما، واستهداف أنظمتها والتأثير في ساستها بتكلفة أقل من الهجمات بسلاح تقليدي لكن بنتيجة أعلى وأدق.
والهجمات السيبرانية ليست بالأمر الجديد، حيث تم تسجيل وقائع عديدة في مختلف أنحاء العالم منذ سنوات، لعمليات قرصنة وسرقة بيانات إلكترونية، واستخدام الإنترنت السوداء (دارك واب) للتجسس، لكن يعتبر الخبراء أن النقطة الفاصلة في تاريخ هذه الحرب، هي التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، والذي قاد لاحقا إلى اتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات البريطانية، واستفتاء البريكست، وحتى اتهامات بالتدخل في انتخابات أخرى في أوروبا.
وتأتي الإستراتيجية الدفاعية الأخيرة كتأكيد على أجهزة المخابرات والدفاع عصرا جديدا، تلعب فيه العمليات السيبرانية دورا هاما. وقد عرّف جون بولتون مستشار ترامب للأمن القومي، الخطة الدفاعية بأنها إستراتيجية أمنية إلكترونية ستكون الولايات المتحدة بمقتضاها قادرة على شن هجمات إلكترونية وهجمات إلكترونية مضادة بشكل أكثر حرية.
وبينما كان يحدد إطار التعليمات الخاصة بالإستراتيجية الإلكترونية الوطنية، قال بولتون “أيدينا لم تعد مقيدة، كما كانت في عهد إدارة أوباما”. وأضاف أن الولايات المتحدة “ستوفر من خلال هذين الإجراءين الإلكترونيين الهجومي والدفاعي هياكل للردع ستقلص السلوك الخبيث على الإنترنت”.
وحذر من أن الدول التي تنفذ نشاطا خبيثا على الإنترنت ضد الولايات المتحدة يتعين أن تتوقع الرد “بشكل هجومي بالإضافة إلى دفاعي”. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مسؤولين أميركيين أن الإستراتيجية الجديدة “تلغي عملية طويلة لتحقيق إجماع في الرأي داخل الإدارة الأميركية” قبل السماح بشن هجوم إلكتروني أميركي.
وقد أعاد بولتون كتابة مشروع الإستراتيجية بعد انضمامه للإدارة في أبريل الماضي. وركزت العديد من تصريحاته الجمعة على أمر سري وقعه ترامب في أغسطس لكن لم يتم إعلانه أبدا، والذي يبدو أنه يعطي المزيد من الحرية للقيادة الإلكترونية للولايات المتحدة للتصرف بأقل قدر من التشاور مع عدد من الوكالات الحكومية الأخرى.
بريطانيا تزيد قدرتها على شن حرب في الفضاء الإلكتروني بتشكيل قوة هجمات إلكترونية جديدة قوامها 2000 شخص
ويمنح الأمر بشكل أساسي المزيد من السلطة للجنرال بول ناكسون الذي تولى هذا العام منصب مدير وكالة الأمن الوطني وقائد القيادة الإلكترونية الأميركية. وخلال جلسة التصديق على تعيينه في الكونغرس في مارس الماضي، شكا الجنرال ناكسون من أن خصوم أميركا الإلكترونيين يشنون هجمات دون قلق كبير من الانتقام، لكن هذا الشهر، قال إنه أصبح أكثر ارتياحا مع التوجيهات الجديدة الصادرة من البيت الأبيض.
وهناك قلق متزايد بشأن احتمال شن هجمات على الإنترنت قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس التي تجرى في نوفمبر المقبل. وأكّد بولتون أن الأميركيين يتعرضون لهجوم يومي على الإنترنت، وهو تصريح ردده أيضا المسؤولون البريطانيون الذين أعلنوا بدورهم عن خطة لتكوين قوة إلكترونية للتصدي للهجمات الإلكترونية، وبشكل أدق لتلك التي تشنها روسيا.
ونقلت شبكة سكاي نيوز عن مسؤول بريطاني قوله إن “القوة الجديدة المتوقع الإعلان عنها قريبا، ستمثل زيادة بواقع 4 أمثال في مجموعة ينصب تركيزها على عمليات الهجوم الإلكتروني”. ومن المقرر أن تحصل القوة، التي ستضم مسؤولين من هيئة الاتصالات الحكومية وعسكريين ومتعاقدين، على تمويل بأكثر من 250 مليون جنيه إسترليني، فيما توقع مصدر بريطاني آخر أن يكون الرقم أكبر من ذلك.
وتعتقد قلة من قادة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية أن روسيا ستتمكن فعلا من “السيطرة” على دول البلطيق أو منطقة شرق أوروبا بوجه عام في المستقبل القريب، وفي المقابل، لم تخف الأغلبية قلقها من مخاوف بشأن قدرة روسيا المتزايدة على خلق الفوضى من خلال شن الحروب السيبرانية وإطلاق الدعايات الموجهة والقرصنة وغيرها من أدوات الحروب الإلكترونية.
روسيا أولوية استخباراتية
صرح رئيس هيئة الأركان البريطاني، السير نيك كارتر، صرح في وقت سابق بأن “بريطانيا تحتاج إلى مواكبة الخصوم لتجنب التعرض لحرب غير تقليدية”. وقال كارتر إن الفشل في مواكبة روسيا سيعرض بريطانيا إلى الدخول في حرب مع خصومها من النوع الذي تمارسه روسيا وغيرها من الدول التي يحتمل أن تكون معادية لبريطانيا. ومن أكبر التهديدات المحتملة هي الهجمات السيبرانية التي تستهدف الحياة العسكرية والمدنية.
وتمارس وزارة الدفاع البريطانية ضغوطها على وزارة الخزانة من أجل زيادة الإنفاق على الجيش والبحرية والقوات الجوية، وتدخل نفقات القوة السيبرانية ضمن هذه الزيادة، ويمتدّ نطاق عملها على مختلف القطاعات الدفاعية.
وتقع مسؤولية الحرب السيبرانية على عاتق كل من مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية ووزارة الدفاع. واتهمت رئيس الحكومة البريطانية، روسيا بالتدخل في الانتخابات، وأيضا ألمحت إلى تدخلها في استفتاء الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وبالسعي إلى جعل الإعلام والإنترنت سلاحا بهدف زرع الشقاق في الغرب وتقويض مؤسساته.
وقال كارتر، خفي خطاب أمام مجلس الوزراء للأمن القومي، بحضور مسؤولين من الوكالات الاستخباراتية والدفاعية، إن “الدول المعادية تُبدع في كيفية استغلال الفجوات والثغرات بين السلام والحرب”.
وأضاف “يجب أن نلاحظ ما يدور حولنا وإلا فإن قدرتنا على اتخاذ الإجراءات اللازمة ستكون مقيدة بشكل كبير. إن سرعة اتخاذ القرار وسرعة نشر القوات والجنود بشكل يتواكب مع العصر الحديث هما شيئان ضروريان إذا أردنا أن نقدم سياسة ردعية بشكل واقعي. لقد حان الوقت لمواجهة هذه التهديدات، لا يمكننا تحمل عواقب الانتظار”، وقد سبق أن استخدمت بريطانيا أسلحة إلكترونية لأول مرة في المعركة ضد تنظيم داعش.
واعتبر التقرير السنوي للمخابرات البريطانية روسيا أولوية استخباراتية، وقال جهاز الاستخبارات الدفاعية إنه زاد من تركيزه على أنشطة موسكو الخطرة.
وجاء في التقرير أن “التهديد الكلي لبريطانيا يشهد تنوعا بداية من الأفراد الإرهابيين والجماعات الإرهابية المنظمة إلى الدول والحكومات الفاعلة مثل روسيا والصين وإيران”، مضيفا أن “هذه المجموعة الأخيرة من الدول قادرة جدا على تنفيذ الهجمات السيبرانية المتقدمة”.
الريادة للصين
يقول الخبراء إنه بخلاف الأنظمة “الديمقراطية”، كالدول الأوروبية والولايات المتحدة، تتمتع الحكومات الدكتاتورية بفرص أسهل للعمل مع شركات التكنولوجيا المحلية، حيث تملي عليها ما يجب فعله، وهذه هي أحد الأسباب التي دفعت إريك شميدت الرئيس السابق لشركة “ألفابيت” (الشركة الأم لغوغل) ورئيس مجلس الابتكار في مجال الدفاع، إلى التحذير مؤخرا من أن الصين على وشك أن تتجاوز الولايات المتحدة في سباق الذكاء الاصطناعي، ولذلك تأثير عميق في الحرب السيبرانية.
وعلى مدى أربعة عقود تقريبا، تزعمت الولايات المتحدة نمو الإنترنت. فمن بداياتها كبرنامج صغير لدى البنتاغون وصولا إلى مكانتها الحالية كمنصة عالمية تربط أكثر من نصف سكان العالم وعشرات المليارات من الأجهزة، ظلت الإنترنت مشروعا أميركيا، لكن الولايات المتحدة اليوم تفقد هذه الريادة لفائدة الصين.
ويذكر أن الرئيس شي جينغ بينغ رسم الخطوط العريضة لخطته من أجل جعل الصين “قوة سيبرانية عظمى”. فعدد الصينيين الذين لديهم نفاذ إلى الإنترنت هو الأكبر على المستوى العالمي، لكن لدى شي خطط أعظم، إذ تهدف الصين عبر القوانين المحلية والتجديد التكنولوجي والسياسة الخارجية إلى بناء نظام دفاع سيبراني “لا يمكن اختراقه” ومنح نفسها صوتا أكبر في حوكمة الإنترنت وتزعم العالم في التكنولوجيات المتقدمة، وبالتالي تكوين جيش رقمي قوي وقادر على توجيه هجمات إلكترونية وصد الهجمات المضادة.
العرب