في التقليد السوفياتيّ، المهجوس بتجميع أوراق القوّة والنفوذ، أكثر من مثل على «الصداقة» مع طرفين نقيضين. في أواخر الخمسينات مثلاً، حاولت موسكو «مصادقة» الزعيم العراقيّ عبد الكريم قاسم، حليف الشيوعيّين العراقيّين حينذاك، والاحتفاظ في الآن نفسه بـ «صداقة» الزعيم المصريّ، مؤمّم قناة السويس وباني السدّ العالي وكاسر احتكار السلاح الغربيّ، جمال عبدالناصر. في النصف الأوّل من السبعينات حاولت أيضاً الجمع بين الزعيم الأثيوبيّ منغستو هايلي مريام والزعيم الصوماليّ محمّد زياد برّي، والاثنان كانا حينذاك «ماركسيّين لينينيّين» بطريقتهما.
وكان يمكن لمحاولات كهذه أن تتضاعف لولا المنافسة الصينيّة – الماويّة مع موسكو. فبكين مثلاً، بمصادقتها كمبوديا بول بوت، قطعت الطريق على صداقة روسيّة مع كلّ من فيتنام وكمبوديا المتناحرتين. والشيء ذاته يقال عن الجبهات الأنغوليّة التي كانت تقاتل الاستعمار البرتغاليّ، إذ حالت علاقة الصين بجوناس سافيمبي، زعيم حركة «يونيتا»، من دون «صداقة» الروس مع عموم حركة التحرّر الأنغوليّة.
على أنّ سياسة جمع النقائض السوفياتيّة لم تنجح. فموسكو كسبت قاسم لكنّها خسرت ناصر. وفقط بعد مقتل الأوّل في انقلاب البعث عام 1963، أمكن إحياء علاقة «الصداقة» مع القاهرة. وهي كسبت هايلي مريام لكنّها خسرت عدوّه في حرب أوغادين، زياد برّي الذي لم يكتف بتطليق الكرملين بل طلّق أيضاً ماركسيّته اللينينيّة واتّجه، من طريق مصر الساداتيّة، غرباً.
والرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين يستأنف اليوم هذا التقليد، مستفيداً من عاملين لم يوجدا في الزمن السوفياتيّ: ضعف الحضور الغربيّ والأميركيّ في المنطقة وفي العالم، وأنّ بكين، وهي «صديقة» لبوتين، ليست حتّى إشعار آخر منافساً سياسيّاً للروس في «العالم الثالث».
اليوم تلوح «السياسة» الروسيّة في سوريّة وتسوية إدلب الأخيرة خصوصاً، مثلاً باهراً: فبوتين – الذي لا يجيد الخصومة إلاّ مع الشعوب – «يصادق» دفعة واحدة أكبر عدد من الدول: إسرائيل وتركيّا وإيران. يتحمّل إساءاتها المحدودة وغير المحدودة، بما فيها الإهانات الإسرائيليّة في الأجواء السوريّة، ليطالبها بمقدار من الانضباط والتناغم: إسرائيل عليها أن «تبلّغ» موسكو بعمليّاتها العسكريّة، وأن تنفّذها بعيداً من المواقع والمصالح الروسيّة المباشرة. تركيا عليها أن تتولّى بنفسها أمر حلفائها وأنصاف حلفائها الإسلاميّين. إيران عليها أن تبتعد، وتبعد أتباعها، من الحدود مع إسرائيل. والواضح أنّ هذه «التنظيمات» الروسيّة ترتّب على تركيا وإيران أكلافاً تطال الأفكار والدعاوى والتحالفات، فيما ترتّب على إسرائيل أكلافاً لوجستيّة واتصاليّة وذات صلة بالعلاقات العامّة.
أهم من ذلك أنّ «استراتيجيّة» كهذه هي من طبيعة يوميّة: رتق بعد فتق وفتق بعد رتق. وهذا لا يعود فحسب إلى صعوبة السيطرة على التناقضات الداخليّة لـ «أصدقاء» متناقضين جدّاً، بل يعود أيضاً إلى الحساسيّات العسكريّة واحتمالات الخطأ الكثيرة الناجمة عن وجود أطراف أربعة فوق رقعة جغرافيّة صغيرة، رقعةٍ لا يُسأل أهلها رأيهم في «الصداقات» الكثيرة مع روسيا، تماماً كما لم يُسألوا رأيهم إبّان «الصداقة» الشهيرة مع الاتّحاد السوفياتيّ الراحل.