تتواصل انتصارات المعارضة السورية منذ بداية العام في أكثر من جبهة على مساحة البلاد من شمالها إلى جنوبها مع تراجع ملحوظ لقوات وميليشيات ما تبقى من نظام الأسد يظهر على شكل انهيارات جماعية فجائيّة وسقوط مناطق واسعة وهزيمة كتائب وأفواج وألوية عسكرية بأكملها. ولا يقتصر هذا الأمر على قوات الأسد إنما يمتد ليطال الميليشيات الأجنبيّة التي أتت للدفاع عنه من إيران والعراق ولبنان وأفغانستان ودول أخرى والتي ينسق الحرس الثوري أدوارها على الأرض.
هذه الميليشيات الإرهابية التابعة لإيران بدأت تتقهقر بدورها بشكل سريع بعد فشلها المدوي في حملة احتلال الجبهة الجنوبية بقيادة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في فبراير الماضي، ومعظم انتصاراتها الصورّية الإعلاميّة اليوم أصبحت لا تدوم أكثر من بضعة أيام، كما هو الحال مع الانتصار الذي أعلن عنه أمين عام حزب الله في القلمون والمتمثل بالسيطرة على “تلّة موسى”!
لقد دفع هذا الزخم في تقدّم المعارضة وتراجع النظام كثيرين إلى التصريح خلف الأبواب المغلقة بأنّ نظام الأسد قد ينهار بشكل مفاجئ في أي لحظة نتيجة ضربات المعارضة المتلاحقة والسريعة. ولا يقتصر مثل هذا التقييم على المهتمين بالشأن السوري والمتابعين له وإنما يمتد ليطال عدداً من المسؤولين الرسميين أيضاً، ولا شك أنّه احتمال قائم اليوم وبقوّة أيضاً أكثر من أي وقت مضى.
لكن هناك من يعتقد أن الأسد ليس حرّاً أصلاً في أن يقرر متى يهرب أو يغادر المعركة أو يستسلم، وأن سيناريو الانهيار المفاجئ والسريع لما تبقى من نظامه، وإن كان ممكناً جداً، الا أنّه ستجري مقاومته من جهات حرصت منذ البداية على تثبيت الأسد في منصبه ليس حبّاً فيه أو دفاعاً عنه، وإنما دفاعاً عن مصالحها وعن نفوذها وعن امتيازاتها وعن استثماراتها العسكرية والمالية والسياسية والمذهبيّة التي استمرت لعقود طويلة في سوريا عبر الأسد وعائلته وعصاباته وطائفته.
انهيار ما تبقى من نظام الأسد يعني أن هذه الجهات ستخسر كل ما استثمرته فيه منذ البداية وحتى اليوم، وهي ليست مستعدة حقيقة لذلك بعد. إيران ورغم التدهور الخطير في وضع الأسد لا تزال تحاول منع انهيار ما تبقى من نظامه لأن ذلك لو حصل فسيحرمها أيضاً من أن يكون لها أي دور أو كلمة في الوضع السوري في المرحلة القادمة ناهيك عن أن ذلك سيضيّع عليها حتماً حتى فرصة المقايضة على الأسد.
ما ينطبق على إيران ينطبق على روسيا أيضاً ولكن بشكل مختلف. لقد أتيح لموسكو فرصة لعب دور مهم في سوريا خلال المرحلة الماضية لكنّها وبدلاً من أن تستغل ذلك للضغط على الأسد وإجباره على تطبيق بيان جنيف-1 لتبني لنفسها سمعة مختلفة ودوراً مختلفاً وربما أوسع وأكبر في الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة، فضّلت موسكو التصرّف بالعقليّة السوفيتية القديمة إيّاها، عقلية عصر الحرب الباردة التي عفا عليها الزمن، وهي مازالت حتى هذه اللحظة تسير في نفس الخط، إذ بدلاً من أن تستشعر الخطر القدم من الانهيار السريع للنظام، وأن تتحرك لإخراج الأسد من المعادلة كلياً والتركيز على مرحلة بناء سوريا، فضّلت استخدام هذه الورقة للقول إن النظام إذا سقط سيسيطر الإرهابيون على سوريا، ولذلك لا بد من الحيلولة دون سقوطه!
ما يهمنا في هذا السياق ليس إيران وروسيا، فقد قدّمتا كل ما تمتلكانه خلال السنوات الأربع الماضية لدعم الأسد ولمنع الثورة من الانتصار الأمر الذي أدى إلى تدمير سوريا كدولة وكمجتمع، وليس هناك ما تستطيعان تقديمه الآن أكثر مما قدمتاه سابقاً، ولهذا السبب بالتحديد فنحن لا نرى ردود فعل استثنائية على استشعارهما إمكانية سقوط ما تبقى من نظام الأسد باستثناء إجباره على البقاء حتى النهاية.
لكن المثير للسخرية، أن التحرك السريع إزاء استشعار إمكانية انهيار ما تبقى من نظام الأسد جاء من قبل واشنطن. سياسات واشنطن تجاه الأزمة السورية كانت سبباً رئيسياً من أسباب وصولنا إلى المرحلة التي نحن عليها الآن في سوريا وهي شريكة بهذا المعنى للإيرانيين والروس. الملف السوري بالنسبة لواشنطن لم يكن أكثر من جزرة لتحفيز التعاون مع إيران وروسيا في مواضيع وملفات ذات اهتمام مشترك لا تفيد إلا مصالح هذه الأطراف ولا تجلب للمنطقة إلا الخراب والدمار. التحرّك الأمريكي اليوم لا يخرج عن هذا السياق، فبدلاً من أن تحزم واشنطن أمرها وتسرّع من وتيرة ضغوطها الإقليمية والدولية لتنفيذ مقررات جينيف-1 وإخراج الأسد من المعادلة، تحرّكت على مسارين:
الأول: تحاول من خلاله التواصل مع الروس لترى مدى إمكانية التعاون على أمل أن يكون الملف السوري مدخلاً أيضاً للتعاون في قضايا إقليمية ودولية أخرى كملف محاربة الإرهاب وملف أوكرانيا وأمن أوروبا والموقف المستقبلي من نتائج الاتفاق النووي الأمريكي – الإيراني على العلاقة بين روسيا وإيران وأمريكا.
الثاني: تحاول من خلال إبطاء عملية الانهيار السريع للنظام، والتحكّم بطريقة ومسار الانهيار بما يخدم أجندتها حصراً. ولهذا السبب بالتحديد، فإن الجانب الأمريكي يسعى جاهداً خلال هذه المرحلة إلى معرفة المزيد من التفاصيل عن التنسيق السعودي – القطري – التركي في الملف السوري وما هو نوع الدعم المقدّم للمعارضة السورية وكيف أسهم في صناعة جيش الفتح وغيرها من التفاصيل غير المتوافرة لديه، وذلك من أجل إبطاء سرعة دوران عجلة التعاون والتنسيق بين هذه الدول خوفاً من أن يقوم نوع من التحالف الإقليمي بين دول هذا المثلّث يعجّل من الإطاحة بالأسد بشكل مفاجئ وتكون هي خارج المعادلة.
ولكي تشتت الأنظار عن هدفها الحقيقي، تركّز إدارة أوباما على المخاوف من أن يؤدي سقوط ما تبقى من نظام الأسد إلى سيطرة “داعش” ولذلك هي تحاول أن تستفيد أيضاً من هذا التشخيص أو التوصيف لتوظف الآخرين في دعم جهودها في مكافحة تنظيم “داعش” كأولوية وليس للتسريع من عملية إخراج الأسد من المعادلة أو تطبيق مخرجات جنيف-1 أو تأمين انتقال الحكم في سوريا وإنقاذ ما تبقى.
أما مكمن الخوف الحقيقي لدى إدارة أوباما فهو أن يتحول التعاون والتنسيق الإقليمي بين كل من السعودية وقطر وتركيا إلى تحالف يدفع هذه الدول إلى اتخاذ قرارات أكثر استقلالية في القضايا الإقليمية الحساسة، ويشكّل قاطرة تجرّ معها الدول الأخرى في المنطقة بشكل يؤدي إلى تجاوز الموقف الأمريكي في المسائل الأكثر أهمّية مما من شأنه أن يضر بالمصالح الأمريكية في المنطقة
وتخشى الإدارة الأمريكية أن تحزم هذه الدول أمرها في مرحلة ما بعد الانتخابات التركيّة القادمة خاصة وأن يؤدي ذلك إلى تسريع الإطاحة بالأسد قبل أن تتحضّر هي لذلك، خاصة إذا تمّ ذلك قبل الاتفاق النووي الأمريكي – الإيراني المرتقب، على اعتبار أن مثل هذه الخطوة قد تجر إدارة الرئيس أوباما إلى مواقف أو مواقع لطالما قاومتها خلال السنوات الماضية ومن بينها اتخاذ موقف حازم من العربدة الإيرانية الإقليمية.
المخاوف الأمريكية من حصول نوع من التحالف بين دول هذا المثلث الإقليمي لا تقف زمنياً عند حدود مرحلة ما قبل توقيع الاتفاق النووي مع إيران، وإنما تمتد لما بعد التوقيع على الاتفاق أيضاً، فواشنطن تخشى أيضاً من أن يقوم مثل هذا المثلث بتخييرها بشكل غير مباشر بين الوقوف معه أو الوقوف مع إيران وسيكون من الصعب حينها تجاهل ثقل وقوة هذا المثلث سياسياً واقتصادياً وعسكرياً والتضحية به لصالح تقارب أكبر مع إيران، أو أن يؤدي في المحصّلة إلى تخريب التقارب الأمريكي-الإيراني.
ومن هذا المنطلق، تبذل إدارة أوباما الكثير من الجهود في هذه المرحلة لإبطاء سرعة دوران عجلة التعاون والتنسيق بين دول هذا المثلث انطلاقاً من الملف السوري تحديداً. وهناك من يشير أيضاً إلى محاولات بعض الدول الإقليمية خدمة هكذا رؤية من خلال إحباط هذا التعاون بطريقة غير مباشرة عبر اقتراحات أو مشاريع ملغومة.
نظام السيسي الفاشل على سبيل المثال لا يزال يعارض كل الخطوات البناءة التي تقوم بها هذه الدول الثلاث من أجل إنهاء الأزمة السورية وتأمين المرحلة الانتقالية بأقل قدر ممكن من الخسائر أو بمعنى أدق لتفادي المزيد من الخسائر. ممثلوه ذوو الأداء السيء والمستوى الهابط لا يتوقفون عن انتقاد الجانب التركي في الاجتماعات الدوليّة المخصصة لبحث المسألة السورية حتى الآن، كما أنهم يعارضون دوماً جميع المقترحات التي تركّز على أهمّية إخراج الأسد وتطبيق مخرجات جينيف-1 وانتقال السلطة بشكل كامل إلى هيئة انتقالية، ويعارضون بقوّة مقترحات مثل الحظر الجوي والمنطقة الآمنة بحجّة حماية وحدة سوريا رغم أنهم لا ينفكّون مؤخراً عن التعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني الإرهابي) الذي يرأسه صالح مسلّم واستضافة عناصره في اجتماعات خاصة علماً أن هذا الحزب المذكور يدعو علناً إلى الانفصال عن سوريا تحت مسمّيات متعددة ويتلقى أيضاً الدعم مع الإيرانيين.
وهناك من يشير أيضاً إلى تنفيذ نظام السيسي مشاريع أقل ما يقال عنها إنها مشبوهة مثل مشروع ايجاد هيئة بديلة عن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوري، والذي تنفّذه مصر بدعم من بعض الدول الأخرى لقطع الطريق على إمكانية أن يؤدي مؤتمر الرياض إلى توسيع الائتلاف ليضم قوى ممثلة على الأرض في سوريا، ترى العديد من الدول من بينها الولايات المتّحدة أنه لا يجب لها أن تكون فيه.
الخوف من دور إقليمي أكبر وأكثر استقلالية للمثلث المذكور (السعودية وقطر وتركيا) لا يقف عند حدود الأطراف التي تكلمنا عنها. الجانب الإيراني ممثلاً بنظام الولي الفقيه أيضاً يستشعر مدى خطورة مثل هذا الأمر، وقد عبّر بشكل صريح وواضح لأول مرّة منذ الثورة الإيرانية عن موقفه بلسان الناطق باسمه باللغة العربية، زعيم حزب إيران في لبنان حسن نصر الله عندما قال قبل أيّام قليلة فقط ملّوحاً بإعلان التعبئة العامة بين شيعته ومصرّحاً بعزمه التضحية بنصف الشيعة أو ثلاثة أرباعهم، “لقد انتهى الخلاف بين السعودي والقطري والتركي، والكل الآن في المعركه ضدنا…. الوضع يحتاج إلى تضحيات كبيرة لأن الهجمة كبيرة”.
على كل حال، من الواضح من خلال مثل هذه النقاشات والطروحات أن موضوع الأسد قد انتهى وأن الجميع يبحث عن كيفية استغلال ما تبقى من نظامه لخدمة مشاريع أخرى، وهو ما يوجب على كل من دعم الثورة السورية أن يستعد لمرحلة ما بعد الأسد بأسرع ما يمكن، فكما كان عامل الوقت يلعب ضد سوريا والشعب السوري بسبب جرائم النظام، فإنه سيلعب أيضاً ضد سوريا والشعب السوري مرة أخرى إذا لم تكن الرؤى لمرحلة ما بعد الأسد واضحة لدى كل معني بإعادة استهاض هذا البلد وشعبه.
علي حسين باكير