استنفرت الدول في منطقة هضبة البحيرات العظمى الأفريقية كل طاقتها لإنقاذ ما تبقى من سلام في رواندا وبوروندي وامتدادهما إلى الكونغو الديمقراطية.
ولكن يبدو أن الرياح هذه المرة أعتى من قدرة الدول المحيطة والتي تمثل جزءا أساسيا من هضبة البحيرات العظمى، فالتهديد الحالي وعلى خلاف الصراعات الداخلية السابقة، قد يؤدي إلى زعزعة الإقليم الذي يقف على فوهة بركان.
جذور الصراع
منذ بداية تسعينيات القرن الماضي تطفو على سطح منطقة البحيرات العظمى الأفريقية، الكثير من المآسي التي ركزت الضوء على هذه الهضبة الاستوائية، ودفعتها إلى واجهة المشهد الدولي رغم انحصارها بين حدود سياسية لا منفذ لها.
لم تخلُ دولة من الدول المشاطئة للبحيرات الاستوائية من الصراع المتأجج، بل إن تداخل القبائل بين هذه الدول والولاءات فيما بينها خلق تمازجا في الأحداث، وجعل من العسير التركيز على أزمة دولة دون الرجوع إلى جذورها في الأخرى.
تنوعت الصراعات بين التطهير العرقي والصراع على السلطة. ففي بوروندي انطلقت شرارة الأحداث إثر اغتيال رئيس الدولة ميلكور نداديا، الذي تنحدر أصوله من قبيلة الهوتو، وذلك بعد مائة يوم فقط من توليه منصبه الذي تم انتخابه له ديمقراطيا، وهي المرة الأولى في تاريخ بوروندي، وكان ذلك في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1993، مما أدى إلى اشتعال الحرب الأهلية هناك والتي استمرت لأكثر من عشر سنوات.
ولم تكن تلك الأحداث عابرة، حيث تفاقم النزاع وتحول إلى نزاع عرقي، فتيله الصراع المسلح، اشتركت فيه الجبهتان المتحاربتان بارتكاب العديد من الجرائم ضد الإنسانية. وامتد إلى رواندا أيضا التي استعرت فيها عمليات الإبادة الجماعية للتوتسي في العام 1994، مخلفة مئات الآلاف من الضحايا.
انتهت أحداث الإبادة الجماعية في 4 يوليو/تموز 1994، عندما قام الجيش الوطني الرواندي باحتلال العاصمة كيغالي، مما أدى إلى تدفق موجات كبيرة من اللاجئين الهوتو إلى الدول المجاورة مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وتنزانيا. وقد لعبت تنزانيا الدور الأساسي في إنهاء الحرب الأهلية في بوروندي عام 2005 بسعي رئيسها جاكايا كيكويتي، لاحتواء الأزمة بمشاركة الدول الأعضاء في السوق المشتركة لشرق أفريقيا.
ففي أروشا التنزانية، تمت المفاوضات الخاصة برواندا، التي شهدت أكبر حرب عرقية في تاريخ أفريقيا، وانتهت على إثر تلك المفاوضات عشر سنوات من الحرب الأهلية بين الهوتو والتوتسي، راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة ألف شخص، ووقعت فيها اتفاقيات أروشا للسلام.
أما الكونغو الديمقراطية فقد شهدت نشوب حرب في الفترة من 1998 إلى 2003، وكانت أشد ضراوة بعد سنة من “حرب التحرير” في عام 1996 إلى 1997. وكان جوزيف كابيلا الابن قد تولى السلطة في عام 2001 خلفا لوالده لوران ديزيريه كابيلا الذي اغتيل على يد أحد حراسه، ولأنه لا يستند إلى شرعية سياسية، فقد سعى في السنوات الأولى من حكمة إلى إيجاد شرعية جديدة له بسعيه لإيقاف الحرب والاتجاه صوب الإصلاح السياسي. ورغما عن ذلك فقد استمر الوضع بين شد وجذب إلى عام 2004، حيث وصلت الحالة إلى أنشطة عسكرية عبر الحدود المشتركة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا وأوغندا.
تجددت المعارك في 2006 من إقليم كيفو الشمالي بواسطة حركة تمرد مسلحة تولاها ما يعرف باسم “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب”. انطلق هذا التمرد بدعوى حماية المواطنين التوتسيين ووقف الاعتداء عليهم من الهجمات التي تقوم بها جماعات الهوتو الروانديين، وما اعتقدته بتواطؤ الحكومة مع القوات الأجنبية.
وقد سعت الحكومة لاحتواء هذا التمرد من خلال دمج المتمردين مع القوات المسلحة الكونغولية تحت اسم “قوات الجنرال نكنودا”، وقامت بتوقيع اتفاقين للسلام ووقف إطلاق النار مع الجيش الحكومي في سبتمبر/أيلول 2007 ويناير/كانون الثاني 2008. ولكن قوات نكنودا استأنفت القتال ضد القوات الحكومية في نهاية أغسطس/آب 2008.
وجدت هذه القوات المتمردة الكونغولية دعمها القوي من رواندا وأوغندا المجاورتين لإقليم كيفو، وكان ثأر رواندا انتقاما من الهجمات التي شنها المتمردون من جيش رواندا السابق وجماعات الهوتو من الأراضي الكونغولية. وأما دعم أوغندا للمتمردين فقد جاء بسبب إيواء الكونغو للمتمردين الأوغنديين ومدهم بالدعم العسكري.
خضم الأزمة
بنزوح عشرات الآلاف من بوروندي إلى الدول المجاورة، نتيجة لأعمال العنف التي بدأت في منتصف أبريل/نيسان الماضي احتجاجا على قرار رئيس بوروندي بيير نكورونزيزا ترشيح نفسه لولاية ثالثة، تكون بوروندي قد دخلت حلقة جديدة من العنف ما زالت مستمرة إلى الآن.
تكمن المعضلة الأساسية للأزمة في التكوين القبلي الذي أخذ بتلابيب السياسة في بوروندي بشكل خاص ومنطقة البحيرات العظمى ككل. فالرئيس البوروندي ينتمي إلى قبيلة الهوتو التي تشكل الغالبية من سكان بورندي، فيما تعود مرجعية المعارضة إلى قبيلة التوستي التي ينحدر منها زعيم المعارضة. ويزداد تشابك الوضع لأن قبيلة الهوتو من أكبر القبائل في وسط أفريقيا، ولها امتدادات في كل من بوروندي ورواندا وأوغندا.
هذا الوضع استلزم تحرك قادة شرق أفريقيا (بورندي ورواندا وتنزانيا وكينيا وأوغندا) لعقد لقاء في دار السلام بتنزانيا يوم 13 مايو/أيار الجاري، تمخض عنه الاتفاق على عدة بنود هي: دعوة الحكومة البوروندية لتأجيل الانتخابات لفترة لا تتجاوز ولاية الحكومة الحالية، ودعم الجهود الإقليمية الرامية لاستعادة السلام والاستقرار وضمان عودة اللاجئين، وإجراء الانتخابات بطريقة سلمية وحرة ونزيهة وشفافة وشاملة، ووقف العنف من قبل جميع الأطراف.
وفي أثناء اجتماع القادة الأفارقة في دار السلام وقعت المحاولة الانقلابية في العاصمة البوروندية بوجمبورا. وكانت تداعيات هذا الانقلاب هي أن أصدر الاتحاد الأفريقي بيانا يقضي برفض التغييرات غير الدستورية، والتزامه بسيادة القانون والديمقراطية، على النحو المنصوص عليه في القانون التأسيسي والميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم.
تأثير الصراع إقليميا
يعصف الصراع في منطقة البحيرات العظمى بالتوازنات الإقليمية في هذه المنطقة من أفريقيا، ويمتد إلى الشرق حيث القرن الأفريقي الذي تجاهد أميركا في جعله منطقة قوة تربط بين مصالحها في قارتي آسيا وأفريقيا.
وقد مثلت تحركات السلام الأخيرة في البحيرات العظمى عاملا حاسما، خاصة أن تلك المنطقة الغنية بالمعادن تمثل أهمية كبيرة للغرب. فالكونغو الديمقراطية وحدها تزخر باحتياطي كبير من النحاس والكوبالت والماس والذهب، بالإضافة إلى اليورانيوم المستخرج من منطقة كتانجا والذي اشتهر باستخدامه من قِبل الولايات المتحدة في صنع القنابل الذرية التي أطلقتها على هيروشيما وناغازاكي في اليابان عام 1945. كما أنه يمثل أحد أسباب فشل جميع المحاولات لإيقاف الصراع في المنطقة.
أصبحت ضرورة الوصول إلى السلام بأي وسيلة في منطقة البحيرات العظمى تشكل هاجسا للأطراف الدولية التي لها صلة بالمنطقة، وذلك رغبة منها في الحفاظ على ما تبقى لها من مصالح اقتصادية هناك. وبالرغم من اختلاف مصالح الدول الغربية عن مصالح شعوب منطقة البحيرات في ضرورة إحلال السلام، فإن الاهتمام الدولي في هذا الوقت يمثل سندا وضمانا قويا لإعادة تأهيل المنطقة.
م تخلُ دولة من الدول المشاطئة للبحيرات الاستوائية من الصراع المتأجج، بل إن تداخل القبائل بين هذه الدول والولاءات فيما بينها خلق تمازجا في الأحداث، وجعل من العسير التركيز على أزمة دولة دون الرجوع إلى جذورها في الأخرى.
تنوعت الصراعات بين التطهير العرقي والصراع على السلطة. ففي بوروندي انطلقت شرارة الأحداث إثر اغتيال رئيس الدولة ميلكور نداديا، الذي تنحدر أصوله من قبيلة الهوتو، وذلك بعد مائة يوم فقط من توليه منصبه الذي تم انتخابه له ديمقراطيا، وهي المرة الأولى في تاريخ بوروندي، وكان ذلك في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1993، مما أدى إلى اشتعال الحرب الأهلية هناك والتي استمرت لأكثر من عشر سنوات.
ولم تكن تلك الأحداث عابرة، حيث تفاقم النزاع وتحول إلى نزاع عرقي، فتيله الصراع المسلح، اشتركت فيه الجبهتان المتحاربتان بارتكاب العديد من الجرائم ضد الإنسانية. وامتد إلى رواندا أيضا التي استعرت فيها عمليات الإبادة الجماعية للتوتسي في العام 1994، مخلفة مئات الآلاف من الضحايا.
انتهت أحداث الإبادة الجماعية في 4 يوليو/تموز 1994، عندما قام الجيش الوطني الرواندي باحتلال العاصمة كيغالي، مما أدى إلى تدفق موجات كبيرة من اللاجئين الهوتو إلى الدول المجاورة مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وتنزانيا. وقد لعبت تنزانيا الدور الأساسي في إنهاء الحرب الأهلية في بوروندي عام 2005 بسعي رئيسها جاكايا كيكويتي، لاحتواء الأزمة بمشاركة الدول الأعضاء في السوق المشتركة لشرق أفريقيا.
ففي أروشا التنزانية، تمت المفاوضات الخاصة برواندا، التي شهدت أكبر حرب عرقية في تاريخ أفريقيا، وانتهت على إثر تلك المفاوضات عشر سنوات من الحرب الأهلية بين الهوتو والتوتسي، راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة ألف شخص، ووقعت فيها اتفاقيات أروشا للسلام.
أما الكونغو الديمقراطية فقد شهدت نشوب حرب في الفترة من 1998 إلى 2003، وكانت أشد ضراوة بعد سنة من “حرب التحرير” في عام 1996 إلى 1997. وكان جوزيف كابيلا الابن قد تولى السلطة في عام 2001 خلفا لوالده لوران ديزيريه كابيلا الذي اغتيل على يد أحد حراسه، ولأنه لا يستند إلى شرعية سياسية، فقد سعى في السنوات الأولى من حكمة إلى إيجاد شرعية جديدة له بسعيه لإيقاف الحرب والاتجاه صوب الإصلاح السياسي. ورغما عن ذلك فقد استمر الوضع بين شد وجذب إلى عام 2004، حيث وصلت الحالة إلى أنشطة عسكرية عبر الحدود المشتركة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا وأوغندا.
تجددت المعارك في 2006 من إقليم كيفو الشمالي بواسطة حركة تمرد مسلحة تولاها ما يعرف باسم “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب”. انطلق هذا التمرد بدعوى حماية المواطنين التوتسيين ووقف الاعتداء عليهم من الهجمات التي تقوم بها جماعات الهوتو الروانديين، وما اعتقدته بتواطؤ الحكومة مع القوات الأجنبية.
وقد سعت الحكومة لاحتواء هذا التمرد من خلال دمج المتمردين مع القوات المسلحة الكونغولية تحت اسم “قوات الجنرال نكنودا”، وقامت بتوقيع اتفاقين للسلام ووقف إطلاق النار مع الجيش الحكومي في سبتمبر/أيلول 2007 ويناير/كانون الثاني 2008. ولكن قوات نكنودا استأنفت القتال ضد القوات الحكومية في نهاية أغسطس/آب 2008.
كان الأمل معقودا على اتفاق دار السلام بتنزانيا بشكل خاص لأنه يمثل إتاحة فرصة جديدة لدول الإقليم للتفرغ لعمليات التنمية وحل مشكلات اللاجئين، فالمنطقة لم تستفد من المخزون الهائل والثروات المعدنية التي تزخر بها، نظرا لحالة البؤس الذي خلقته الحروب والصراعات المتواصلة، ولكن العودة إلى مربع العنف إثر المحاولة الانقلابية في بوروندي حطم هذه الآمال.
إن اتفاق دار السلام بالنسبة للكونغو كان بإمكانه دعم اتفاقيات السلام التي وقعها الرئيس الكونغولي جوزيف كابيلا خلال العام الماضي والجاري مع أطراف الصراع في الكونغو. وبالنسبة لرواندا فقد كان هناك أمل في الإصلاحات السياسية التي أقدم عليها الرئيس الرواندي بول كاجامي من قبيلة التوتسي منذ توليه السلطة في عام 2000.
ومثلت تلك الإصلاحات أملا في إمكانية عودة اللاجئين الهوتو والتوتسي من تنزانيا الذين بلغوا نحو نصف مليون شخص، كما أنها ستمهد لعلاقات أكثر هدوءا بين الحكومتين البوروندية والتنزانية، خاصة أن التوتسي أثناء الحكم كانوا يتهمون التنزانيين بمساعدة المتمردين الهوتو على عبور الحدود لتنفيذ هجماتهم داخل بوروندي.
كما أن تأثير صراع البحيرات يمتد شمالا ليفاقم معضلة اتفاقية تقاسم مياه النيل التي وقعت عليها بوروندي في 28 فبراير/شباط 2011، لتلحق بالدول الموقعة قبل ذلك بعام. هذه الاتفاقية تتيح للدول الواقعة عند منابع النيل إقامة مشاريع للري والطاقة الكهربائية من دون الحصول على موافقة مسبقة من مصر. وبوصف هذه الدول هي دول حوض النيل فسيكون أمن النهر والاتفاقيات بين دول المنبع والمصب تحت رحمة استقرارها.
من ضمن التأثيرات أيضا، ما تشكله الطبيعة الجيوبولتيكية لشرق ووسط أفريقيا والتي تقوم على احتمالات استمرار الهيكلة السياسية. وتُعتبر زيادة أعداد اللاجئين الهائلة أحد عوامل الارتباط الخاصة بالأزمة المحلية التي تسوغ للحركة القسرية مما يؤدي إلى إذكاء نيران الصراعات، فضلا عن دخول هؤلاء اللاجئين الذين يتحول جزء كبير منهم إلى جماعات معارضة مسلحة، وتتحالف مع الدول المجاورة.
إن النظام السياسي في منطقة البحيرات -كغالب الدول الأفريقية- يحمل بعض ملامح النظم الفاشية. وما الحراك الشعبي القبلي الراضخ لأجهزة الدولة القمعية والعنف المتولد عن ذلك بدليل على معاداة الديكتاتورية، بقدر ما هو تخوف من سلطوية جديدة متمثلة في محاولات الانقلابات العسكرية. وهذا يعني أنه قد تكون هناك قابلية لدى هذه الشعوب لتقبل نظام ديكتاتوري آخر حتى لو لم يكن عسكريا، وهذه هي آفة أفريقيا منذ استقلال دولها التي تدور في حلقة من سلطوية قبلية إلى أخرى.
منى عبد الفتاح
الجزيرة