في تعليق نادر، قال المرشد الأعلى علي خامنئي البالغ من العمر 75 عاما الأسبوع الماضي للصحفيين: انه ذاهب إلى المستشفى لاجراء “عملية روتينية”، وذكرت الصحافة التلفزيونية في وقت لاحق انه خضع بنجاح لجراحة سرطان البروستات.
وسبق للرأي العام الإيراني ان شاهد خامنئي وهو راقد في مستشفى العودة في عام 1981، عندما كان يتعافى من محاولة اغتيال تعرض لها من قبل مجاهدي خلق، اصابت ذراعه اليمنى بالشلل.
وخلال الحرب العراقية ــ الايرانية في الثمانينيات من القرن الماضي، أصبحت صور خامنئي في كل مكان، وهو يرتدي الزي العسكري في الخطوط الأمامية من الجبهة وهو يدردش مع الجنود، وشغل منصب الرئيس لفترتين من عام 1981 حتى عام 1989، حيث اصبح بعدها خليفة للخميني.
واثارت صورة خامنئي الاخيرة وهو راقد في سرير المستشفى، تكهنات حول من سيخلفه؟ ويعتقد المراقبون إلايرانيون ان خليفته شخص يحتل المراتب العليا في السياسة الإيرانية، فالحالة الصحية للمرشد الأعلى لإيران أضحت تُلقي بظلال كثيفة على المشهد السياسي الإيراني، مما سيكون لزاماً على رجال الدين، والحرس الثوري الاتفاق على من سيخلفه سريعاً إذا كانوا يريدون للبلاد أن تتفادى فترة من عدم الاستقرار السياسي.
على ان موضوع خلافة المرشد الاعلى لم تجر مناقشته علناً في ايران، وبحسب مهدي خلجي الرئيس التنفيذي لمركز آيديا للفنون والثقافة، والعضو الكبير السابق في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدني، فان “مرض الزعماء في دول غير ديمقراطية يعد قضية أمن قومي.”
ومن أهم التعقيدات التي تتعلق بمنصب المرشد الأعلى منذ وفاة مؤسس الجمهورية يتمثل في محدودية دائرة المترشحين المحتملين لاختيار بديله، إذ يفتقد أغلب الفقهاء المهارات السياسية، في حين أن من يمتلكون الدهاء السياسي يفتقدون التكوين الديني المطلوب. ومع ان خامنئي لم يبلغ درجة عالية من التكوين الفقهي ليشغل منصب آية الله قبل وقت قصير من تقلده منصب المرشد الأعلى، لكنه منذ ذلك الوقت أظهر حنكة سياسية كبيرة.
و من هذا المنطلق، يعتقد الكثير من الخبراء أن هذا المرض قد يُفجر صراعا داخليا في إيران، لا أحد بإمكانه التكهن بمدى تأثيراته على الجبهة الداخلية الإيرانية، وتماسك مؤسساتها، بالنظر إلى الخلافات الحادة التي تعصف منذ مدة وتؤثر في العلاقات بين السلطات التنفيذية والقضائية والعسكرية في البلاد.
وبهذا الصدد قال عضو التجمع آية الله غلام علي دوري نجف ابادي في آيار/مايو 2014 خلال اجتماع لمجلس الخبراء “ولكن في أي حال، علينا أن نفكر في من سيكون بعده.” ومن هنا فان وجود خامنئي في المستشفى اثار مخاوف النخبة السياسية والشارع الايراني، بوصفه مريضاً أكثر مما كان يعتقد سابقاً.
ولسنوات كان الحديث يدور في الغرف المغلقة حول اصابة المرشد بسرطان البروستات، ومع ذلك، لم يأخذ هذا الامر على محمل الجد، لأن السياسة الإيرانية تعج بالشائعات، إذ شكك العديد من المراقبين بصحة هذه التقارير، لتبدو اليوم انها اكثر من مجرد شائعات. وبالتالي السؤال الجدير بالطرح هنا، من سيكون خليفته؟ وكيف سيتصرف الزعيم الاعلى الجديد ازاء متغيرات السياسة الخارجية الإيرانية، والبرنامج النووي والعلاقات مع الولايات المتحدة؟
صلاحيات المرشد
يحتل “الولي الفقيه” قمة السلطة الدينية والسياسية في إيران، ولا سقف لصلاحياته، وهومن يتولى صنع السياسة الخارجية بشكل مباشر وغير مباشر، ويشرف هو ومستشاروه المقربون على قضايا الدولة المهمة، بما فيها البرنامج النووي والسياسات الإقليمية والمحلية. ويبعث في كل يوم أوامره إلى مجلس الأمن القومي الأعلى “الذي يعد مؤسسة التفكير الاستراتيجي للسلطة” ليتم إيصالها إلى الجرائد والصحف اليومية ومحطات التلفزيون والموظفين الحكوميين، وإلى رجال الدين ليضمنوها في خطبهم. ويرجع الباحث في “مؤسسة كارنيغي للسلام” كريم سجدبور أحد أسباب قوة المرشد إلى الموارد غير الشفافة والضخمة، التي يسيطر عليها من إيرادات النفط. لكنها لم تضمن له هيبة الزعامة الحقيقية والمؤهلات الدينية الرفيعة، ويقول بعضهم عنه انه تبوأ منصباً أكبر من قدراته، سلوكه على مستوى السياسة الخارجية يقوم على قاعدة “لا للمواجهة ولا للتسوية”، كاشفاً عن تلونه، فهو رجل دين معمم، يمارس السياسة بمراوغة ودهاء، يجيد لعبة التقية السياسية، ويسير بحذر بالغ في حقل للألغام دون أن يوقع ضرراً به.
وعمل خامنئي على إعادة بناء منصب المرشد، ليتحول من موقع إشرافي إلى قيادة فعلية ومؤثرة من خلال بيروقراطية حديثة ومعقدة للغاية، واتجه إلى السيطرة على القوات المسلحة والمؤسسات الأمنية والحرس الثوري. وبذلك تحول المرشد من قائد ضعيف إلى زعيم حازم يتدخل في شؤون الرئاسة والبرلمان والاقتصاد والقضاء، وأضحت سلطاته العقبة الرئيسة أمام بناء الدولة في إيران، كونه يعرقل وبصورة منظمة المؤسسات السياسية من أجل منعها من الحصول على الاستقلال المطلوب، ونظراً إلى امتلاكه السلطة المطلقة فإنه يستطيع أن يعطل أي قوانين إسلامية ودستورية لا يريدها.
ابرز المرشحين
ويبدو أنه لا أحد لديه إجابة شافية عن سؤال من سيخلف خامنئي؟ وليس هناك من يجرؤ على الحديث علناً بهذا الشأن، ويعتقد الدكتور نوري علي زادة الخبير الايراني ان بعض العوائل في ايران تلعب دوراً في السياسة الايرانية، ونظرة على عائلة خامنئي لا تقدم الكثير من التصورات.
فشقيقه الأصغر هادي خامنئي، إصلاحي متحمس، ويكرهه بعض المتشددين، وشغل في عام 1999 منصب وزير في البرلمان، ثم مستشاراً للرئيس محمد خاتمي، وهو من المناضلين ضد الشاه قبل الثورة، انتمى للحركة الإصلاحية، واحد مؤسسي “مجمع رجال الدين المناضلين” الإصلاحية، التي أيدت خاتمي في الانتخابات الرئاسية، ووقف إلى جانب مير حسين موسوي في انتخابات 2009، وله تاريخ طويل في الحركة الإصلاحية، حيث أسس في عام 1993 صحيفة “جهان إسلام” (العالم الإسلامي)، ثم صحيفة “حيات نو” (الحياة الجديدة) في عام 2000.
اما شقيقه الأكبر فهو سنا محمد خامنئي، الذي نجا من محاولة اغتيال خلال السنوات الأولى للثورة، ولا يملك مرتبة عليا تؤهله ليتولى منصب المرشد الاعلى.
وربما الشخص الوحيد في الأسرة الذي يمكن أن تتسنى له فرصة تولي منصب المرشد، هو ابنه مجتبى خامنئي، رجل الدين البالغ من العمر 45 عاما، سياسي جاد ويعمل من وراء الكواليس. اتهمه زعماء المعارضة في الانتخابات الرئاسية عام 2005، بتدبير عمليات تزوير واسعة. ويقول آخرون انه كان وراء مخالفات انتخابية جرت في عام 2009، وتشير المصادر إلى أن لدى مجتبى فريقا استشاريا، ويشاع أن له دورا في اختيار قادة الحرس الثوري، كما يزعم بأنه هو الذي يحدد سياسات النظام الأساسية عبر مكتب والده، حيث له علاقات وطيدة بمجلس قيادة الحرس الثوري، وله نفوذ عميق بين كبار القادة العسكريين والسياسيين في إيران.
ويؤكد الدكتور زاده ما يتردد عن النفوذ الذي يتمتع به مجتبى الذي يصفه بأنه “أقوى رجل في إيران حالياً”، مشيرا إلى الدور الذي لعبه في منع فوز مير حسين موسوي بكرسي الرئاسة في الانتخابات الماضية عام 2009. وعلى الرغم مما تقدم فان مجتبى خامنئي، الذي يحتل المستوى المتوسط في التسلسل الهرمي الديني الشيعي، لا يملك المؤهلات الدينية ليحل محل والده.
ويبرز هنا شخص آخر كثيرا ما يذكر باعتباره الخليفة المحتمل، هو آية الله محمود هاشمي شاهرودي، نائب رئيس مجلس الخبراء، الذي ولد في العراق لأسرة إيرانية، ويبلغ من العمر 66 عاما، انتقل إلى إيران بعد وقت قصير من قيام الثورة عام 1979.
وعمل من 1999 إلى 2009 رئيسا للقضاء، وهي وظيفة يشغلها في العادة أقرب المقربين من المرشد الأعلى، كما عمل شاهرودي في عدد من الأجهزة المهمة الأخرى للدولة، بما في ذلك مجلس صيانة الدستور، ومجلس الخبراء، ولعب دوراً كبيراً في قمع الحركة الاصلاحية في ايران، ويرأس احد اهم مجالس الحكم في ايران، مجلس تشخيص مصلحة النظام.
وفي عام 2011 افتتح شاهرودي مكتباً في النجف، لتقوية النفوذ الايراني في العراق. ويعتقد أن مثل هذه الخطوة، ما كان لها ان تتحقق الا بدعم وتنسيق مع علي خامنئي. ونقلا عن شبكة تابناك الاخبارية، فان أعضاء حزب الدعوة الشيعي، الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي وخليفته حيدر العبادي، قد اعترفوا به كمرجع للتقليد. كان بالفعل الزعيم الروحي لفصائل عراقية قوية، بما في ذلك أتباع منظمة بدر، وكذلك معظم أعضاء كتائب “حزب الله” المدعوم من قبل ايران، وكذلك لميليشيات شيعية نشطة في جنوب العراق، و”أهل الحق” وهو فصيل متشدد ومن بين طلابه في مدينة قم كان “حسن نصر الله”، زعيم “حزب الله في لبنان”، ويشاع أنه قريب من الصفوف العليا من الحرس الثوري، وفيلق القدس، الامر الذي والتي سيعزز حظوظه على نحو كبير.
اما المرشح المحتمل الآخر فهو صادق لاريجاني الرئيس الحالي للسلطة القضائية الذي رشح للمنصب مرتين على يد خامنئي، وهو من أسرة ذات نفوذ سياسي فله شقيق يرأس البرلمان، والثاني شغل العديد من المناصب الحكومية الرفيعة، لكنه لا يعتبر من رجال الدين الكبار ومن غير المرجح ان يحصل على تأييد كبير من الحرس القديم. ولد في مدينة النجف بالعراق عام 1960، وعاد إلى إيران عندما كان عمره سنة واحدة وبقي فيها، حيث بدأ دراسته الدينية في مدينة قم عام 1977.
ثم حسن الخميني الحفيد الأكبر لمؤسس للجمهورية الايرانية، وهو مقرب من معسكر الرئيس المحافظ والإصلاحي البراغماتي، بيد أن قرابته للمرشد الاول قد لا تعوض عن ميوله الاصلاحية، وصغر سنه الذي يبلغ 42 عاماً.
مراكز القوى
يتم اختيار المرشد الأعلى رسمياً من قبل أعضاء مجلس الخبراء، وهو هيئة منتخبة من 86 شخصية من رجال الدين ممن يعرف عنهم التقوى والعلم، ويضطلع المجلس بالإشراف على أداء المرشد الأعلى، ولكن وظيفته الرئيسة هي اختيار خليفة له بعد وفاته.
اما مؤسسة الحرس الثوري وهي واحدة من اهم مواقع القوة في إيران، معنية بحماية النظام والدفاع عنه، تضم مئات الآلاف من العناصر، إضافة لإشرافها على ما يسمى جهاز “التعبئة العامة” (الباسيج) الذي يضم ملايين العناصر. ولم يكتف الحرس بدوره الأمني والعسكري بل تخطاه الى مجالات الإعمار والاقتصاد والثقافة والإعلام، كما ان ضباطه وكوادره تغلغلوا في مؤسسات الحكم المختلفة وخصوصاً خلال رئاسة محمود احمدي نجاد ما جعلهم القوة الأبرز في إدارة البلاد.
وتشكل المؤسسة الدينية القوة الثالثة من حيث التأثير والانتشار، اذ تضم حوالى خمسمئة الف شخص بين عالم دين وطالب ومرجع ومجتهد، وتتوافر على امكانات مالية ضخمة وإن كانت غير موحدة التوجه والرؤية، وغالبية المنتمين اليها يعتبرون ان استمرار النظام الإسلامي يحفظ دورهم ومصالحهم. ولم يكتف علماء الدين والطلبة بالدور التقليدي على صعيد الوعظ والإرشاد وتدريس الفقه والأصول، بل تحولوا الى قيادات سياسية وكوادر ادارية وأصحاب مصالح اقتصادية ومؤسسات متعددة الأهداف، إضافة إلى إقامة الجامعات والمراكز الفكرية والبحثية.
ولا يمكن استبعاد دور “البازار” أي التجار وأصحاب المصالح الاقتصادية، كاحد مصادر القوة والضغط، إذ يحرص المسؤولون في إيران على رعاية مصالحهم وعدم الاصطدام بهم، نظراً لفاعليتهم وقدرتهم على التأثير على الصعيد الشعبي والسياسي.
وقبل تعيين المرشد تجري الكثير من المفاوضات خلف الكواليس، وتشهد مراكز القوى المختلفة ضغوطاً لاختيار مرشح يحظى بدعم اكثر من مؤسسة، وتأسيساً على ما تقدم فانه من المستبعد ظهور خليفة للمرشد، بامكانه إحداث تغيير كبير في نهج سياسة إيران الخارجية والداخلية، كل ذلك يعطي مؤشراً الى أن اختيار المرشد لن يكون بعيداً عن أن يكون لهذه المؤسسات رأيها في هذا الشأن.
وبالتالي فإن توقع أن يكون الولي الفقيه القادم ذا ميول وتوجهات تسير أقرب إلى التيار الإصلاحي في إيران هو أمر مستبعد، وما يعزز هذا التحليل انحسار دائرة الممارسة السياسية في إيران، ولاسيما بعد تهميش خامنئي الجيل الأول من السياسيين مثل أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ومير حسين موسوي. وتحول إدارة العملية السياسية بيد جيل جديد من السياسيين، الذين يتسمون بالضعف ويدينون للمرشد بما هم عليه. وبعبارة بديلة أفول دور الحرس القديم، من الشخصيات والقيادات المعروفة التي كان لها إسهام كبير في ولادة الثورة، ونشوء قيادات شابة لديها منظور مختلف، وطريقة تفكير جديدة ورؤى للأمور بلا شك ستنعكس على دور المرشد الأعلى.
ولابد هنا من ملاحظة ان اختيار المرشد الجديد، يتطلب معرفة بمتغيرات المصالح الايرانية اقليمياً ودولياً، ويتوافر على قدرات في الانتقال المرن بين حسابات الربح والخسارة.
هدى النعيمي