لم يعد غياب الأمن السياسي وانتشار مظاهر العنف والإرهاب في الكثير من البلدان العربية، هاجساً سياسياً فقط بل بات تحدياً اقتصادياً. فكيف يمكن للإدارات السياسية أن تخطط وتنفذ برامج التنمية والمشاريع الحيوية، عندما يكون الهم الأساس الذي تواجهه هو غياب الاستقرار وتنامي مظاهر التطرف وتوسّع دائرة الإرهاب؟
هذا الوضع المقلق لا يتعلّق فقط بالبلدان التي تعاني مواجهات مباشرة بين القوات الحكومية والمنظمات الإرهابية والمتمردة، كما هي الحال في سورية أو اليمن أو العراق أو مصر أو تونس، بل إن الأوضاع المثيرة للقلق تطغى على الحياة في بلدان عدة مثل الدول الخليجية أو المغاربية مثل الجزائر والمغرب. وعندما يصبح الأمن هاجساً أساسياً، فإن الثقة بالأداء الاقتصادي تتراجع بما ينعكس على ثقة المستثمرين، وتداولات أسواق المال أو أسعار صرف العملات الوطنية في مقابل العملات الدولية الرئيسية.
ومنذ انطلاق «الربيع العربي» أوائل عام 2011، أخذ الأداء الاقتصادي بالتراجع في البلدان ذات الصلة مثل تونس ومصر واليمن وسورية وليبيا، وهي بلدان عانت من تراجع إيراداتها الأساسية، وعلى سبيل المثال، مداخيل السياحة في مصر وتونس أو مداخيل النفط في ليبيا أو مداخيل متنوّعة لسورية واليمن. ولم يقتصر الأمر على هذه المداخيل، بل إن الشلل الاقتصادي أصاب عمل الكثير من القطاعات الحيوية مثل الصناعات التحويلية والزراعة والخدمات في كل هذه البلدان، وأدى إلى زيادة أعداد العاطلين من العمل وتدهور الأوضاع المعيشية لغالبية سكان تلك البلدان.
ما يزيد تعقيدات الأوضاع الاقتصادية في ظل غياب الأمن والاستقرار السياسي، أن هذه البلدان تعاني أصلاً، من تراجع معدلات النمو الاقتصادي ومصاعب العملية التنموية واتساع دائرة الفقر والبطالة. كما أن البلدان العربية التي مرت بثورات وانتفاضات خلال السنوات الأخيرة، بغالبيتها ربما ما عدا تونس، تواجه ارتفاع معدلات النمو السكاني وتنامي أعداد صغار السن والشباب، ما يزيد الضغوط على الإمكانات الاقتصادية المتاحة. وربما كانت تلك الحركات الاحتجاجية التي أدت إلى المتغيرات السياسية، إلى حد كبير، وليدة تلك الأوضاع المعيشية المزرية التي تعاني منها قطاعات واسعة من الشباب العربي. ولا بد من الإقرار بأن الأنظمة السياسية في العالم العربي أهملت، إلى حد كبير، متطلبات التنمية المستدامة ولأمد طويل. كما أن تلك الأنظمة لم توظف الإمكانات الاقتصادية بموجب معايير التنمية المستدامة. ويضاف إلى ذلك، أن اتباع مفاهيم شمولية في الحياة الاقتصادية عطّل الاستفادة من إمكانات القطاع الخاص. بل أكثر من ذلك، فقد دفعت تلك السياسات إلى هروب الأموال أو تآكلها.
فكيف يمكن للحكومات العربية في هذه المرحلة، أن تواجه هذا المأزق السياسي والأمني، ومن ثم تضع البرامج الاقتصادية التي تعجّل من تحسين الأوضاع المعيشية والارتقاء بالأداء الاقتصادي؟ هناك توقعات بأن يبلغ حجم الناتج الإجمالي لاقتصادات البلدان العربية في نهاية العام الحالي، نحو 3 تريليونات دولار، وبما يشكل 3.7 في المئة من حجم الناتج الإجمالي العالمي. لكن بلدان الخليج تساهم بـ78 في المئة من الناتج الإجمالي للاقتصادات العربية، وبذلك فإن البلدان العربية الرئيسية ذات الأحجام السكانية المهمة، ما زالت ذات مساهمات متواضعة في الاقتصاد العربي. ويمكن أن نعزو ذلك إلى أن بلدان الخليج هي اقتصادات مصدّرة للنفط، ما مكّنها من رفع قيمة الناتج المحلي الإجمالي لبلدانها. كما أن بلدان الخليج تساهم من خلال المساعدات والتمويلات وتشغيل الأيدي العاملة العربية، في توفير الأموال اللازمة للكثير من البلدان العربية، خصوصاً مصر والسودان واليمن وسورية ولبنان، إلى حد كبير. وخلال السنوات الأخيرة، زادت هذه البلدان الخليجية مساعداتها المالية للحكومات لمواجهة التزامات الإنفاق الجاري والاستثمار التنموي. ويمكن تأكيد أن عمليات إعادة البناء في البلدان العربية المختلفة خلال السنوات المقبلة، ستعني التزامات جديدة وكبيرة على بلدان الخليج.
القضية الأخرى التي قد تؤرق الإدارات الاقتصادية في بلدان الخليج العربي، هي تلك المتعلّقة بتجاوز الهاجس الأمني الناتج من غياب الاستقرار في البلدان العربية المجاورة. وربما تظلّ الأوضاع الأمنية معقولة في بلدان المنطقة، إلا أن هناك مخاوف من تأثيرات العنف والإرهاب والفتن الطائفية التي تواجه سورية والعراق واليمن، وإمكانات تأثيرها في أمن المنطقة. يضاف إلى ذلك، أن هذه المخاوف وما ينتج منها من التزامات وتخصيصات للإنفاق الأمني والعسكري، قد تؤدي إلى تحجيم الإنفاق الرأسمالي في وقت تتراجع الإيرادات السيادية نتيجة انخفاض أسعار النفط عن المستويات التي بلغتها في السنوات الأخيرة.
لا شك أن بلدان الخليج والتي يعرف أنها تعتمد في شكل كبير على أدوات الإنفاق العام، ستتأثر بأي انخفاض في مخصصات الإنفاق الرأسمالي. ومن المؤكد أن ذلك سينتج منه تراجع في إيرادات شركات في القطاعات غير النفطية، ومن ثم التأثير المباشر وغير المباشر في أداء الأسواق المالية في المنطقة. ومهما يكن من أمر، فإن معالجة الأوضاع الأمنية وانتهاج السياسات التي تؤدي إلى الاستقرار السياسي، سيكونان من أهم العوامل المساعدة في إعادة الثقة باقتصادات البلدان العربية كافة ومن ثم تحسّن بيئة الأعمال، بما يعزز توظيف الأموال في مختلف القطاعات وبما يساهم في خلق فرص العمل. لكن تظل التحديات قائمة لسنوات مقبلة.