أميركا وروسيا.. تحالف حتمي

أميركا وروسيا.. تحالف حتمي

580

منذ أزمة أوكرانيا، حيث أسقط الشعب سلطة متحالفة مع روسيا وانتخب أخرى متحالفة مع “الغرب”، وضم روسيا شبه جزيرة القرم، ودعمها تمرد المنطقة الشرقية في أوكرانيا؛ تعقدت العلاقات الأميركية الروسية التي كانت تبدو قبل ذلك سائرة نحو التفاهم.

أخذت التوقعات تميل إلى القول بـ”عودة الحرب الباردة”، خصوصا بعد العقوبات الاقتصادية الأميركية على روسيا، التي شملت كذلك كل الدول الأوروبية، حتى تلك التي تربطها علاقات مميزة مع روسيا مثل ألمانيا. ومن ثم عودة التوتر في تناول الأزمات الدولية عموما، من سوريا وإيران إلى ليبيا، وحتى اليمن.

الأمل بعودة الحرب الباردة، أو رؤية الصراع بين الطرفين يتصاعد، حكَم قطاعا من الذين ما زالوا يعيشون أجواء الحرب الباردة، ويؤسسون رؤيتهم على أساسها (مثل ما يسمى اليسار الممانع). ولهذا تحول الصراع الذي نشأ لديهم إلى حقيقة، حيث أصبحت توصيفات روسيا كدولة إمبريالية تخضع لذلك، الأمر الذي جعلها “رأسمالية مستقلة”، أو “دولة بازغة”، أو “دولة تحررية”. وجرى الهجوم على كل من يعتبر أنها دولة إمبريالية.

“الإرهاصات الأولى لعودة ما يسمى الحرب الباردة ظهرت مع الدور الروسي بسوريا، لكنها تراجعت بعد التقارب الأميركي الروسي بعد عام من الثورة في سوريا، والتفاهمات التي تحققت بينهما حينها، بيد أن أزمة أوكرانيا أعادت الأمل بأن الصراع هو السمة التي تحكم العلاقة بين الإمبرياليتين”

الإرهاصات الأولى لهذه الرؤية ظهرت فقط مع الدور الروسي في سوريا، بعد أن أصبحت روسيا هي الحامي للنظام في مجلس الأمن عبر “الفيتو المزدوج” (الروسي الصيني)، والداعم له عسكريا وسياسيا. لكنها تراجعت بعد التقارب الأميركي الروسي بعد عام من الثورة في سوريا، والتفاهمات التي تحققت بينهما حينها، وأصبح هناك ارتباك في الموقف من روسيا نتيجة الخشية من التخلي عن دعم النظام السوري. لكن أزمة أوكرانيا أعادت الأمل بأن الصراع هو السمة التي تحكم العلاقة بين الإمبرياليتين، رغم رفض تسمية روسيا بدولة إمبريالية لأنها “رأسمالية مستقلة تقاوم الهيمنة الإمبريالية الأميركية”.

الآن نعود إلى لحظة أخرى، حيث يعود التفاهم هو ما يريده الطرفان. فقد أدت زيارة كيري الأخيرة إلى موسكو إلى العودة إلى بحث الملفات المختلفة التي شهدت خلافات في المرحلة الماضية، من أوكرانيا إلى سوريا. ويبدو أن الطرفين يحرصان على ذلك، وأن الخلافات لا تقود إلى “حرب باردة”، أو ميل روسي للابتعاد عن التفاهم مع أميركا، بل إنها مضطرة لإبقاء الرابط معها. فأميركا تعيش “شبح الصين”، وروسيا تعيش “شبح العزلة” بعد أن تشابك اقتصادها بالاقتصاد الرأسمالي العالمي إلى حد كبير، ولأن اقتصادها يهيمن عليه الطابع الريعي نتيجة الاعتماد الكبير على تصدير النفط والغاز (70% من الدخل القومي).

ولهذا تصبح العزلة (أو الحصار الاقتصادي المفروض من قبل أميركا) انتحارا، لأنها تقود إلى انهيار اقتصادي كبير. بمعنى أن أميركا تريد التحالف مع روسيا لهدف مستقبلي انطلاقا من الشعور بخطر تعتقد أنه سيأتي من الصين التي تطمح لأن تكون القوة المهيمنة عالميا، وتؤسس لتحقيق ذلك.
وأميركا هنا قادرة الآن على المناورة، والصبر، وأيضا الضغط. لكن روسيا لا تمتلك القدرة على المناورة والصبر، لأن مجمل اقتصادها قائم على تصدير النفط والغاز، ومجمل اقتصادها مرتبط بالمراكز الرأسمالية نتيجة التداخل الذي تحقق بعد الانفتاح السريع على السوق العالمي بعيد سيطرة بوريس يلتسين.

كما أشرت مرارا فإن أميركا في إستراتيجيتها التي تبلورت بداية سنة 2012 تسعى لأن تقيم تحالفا عميقا مع روسيا، كما مع إيران. لأن ذلك هو جزء من إستراتيجيتها لحصار الصين، لكنها تريد ذلك وفق حدود تقررها هي ولا تتعلق بطموحات لا روسيا ولا إيران، لهذا تعمل على الضغط والحصار، ومن ثم الحوار، من أجل الوصول إلى تحالف يخدم سياساتها هي، وإن كان يخدم بشكل أو بآخر روسيا (وإيران).

“أظن بأن أميركا سوف توافق أخيرا على المقترح الروسي بشأن شبه جزيرة القرم، كما ستوافق على تشكيل فدرالية أوكرانية بحيث سيبقى لروسيا تأثير حاسم في الشرق الأوكراني، في تصور يقوم على تأسيس تحالف أميركي روسي أوروبي”

وما يساعد أميركا على ذلك هو طبيعة النمط الاقتصادي الذي هيمن في روسيا بعد انهيار الاشتراكية، حيث تحكمت فئة مافياوية، ربطت الاقتصاد بالمراكز الإمبريالية، وبالتالي تداخل مع مجمل الاقتصاد الرأسمالي، وأصبح يتأثر بكل عوامله، وخصوصا هنا بالقطاع المالي فيه الذي هو تحت السيطرة الأميركية، وهو ما تضغط أميركا عبره (كما حدث مع إيران حين جرى فرض الحصار على البنك المركزي الإيراني الأمر الذي منع الحصول على التدفقات المالية الآتية من بيع النفط، الذي يباع فقط بالدولار).

لقد توافقت مع روسيا على الحل في سوريا منذ إقرار مبادئ جنيف1 في 30 يونيو/حزيران 2012، واشتغلت على ترتيب معارضة تقبل بهذا الحل، ونجحت، لكن روسيا لم تنجح في الإتيان بوفد من السلطة يوافق على المبادئ تلك. ومن ثم انفجرت الثورة في أوكرانيا فأسقطت “عميل” روسيا في سعي للاندماج بـ”الغرب”، أي الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، رغم أن تجارب بلدان أوروبا الشرقية مع الاتحاد كانت سلبية، حيث زاد الفقر والتهميش، وعمق الأزمة الاقتصادية، لأن الالتحاق بالاتحاد يعني تعريض هذه البلدان لعملية نهب كبيرة من قبل الاحتكارات الأوروبية (الألمانية خصوصا، والفرنسية كذلك).

هذا الأمر دفع روسيا إلى اعتبار ما جرى “مؤامرة” فعمدت إلى ضم شبه جزيرة القرم، ودعمت المعارضة المرتبطة بها في الشرق الأوكراني. ولا شك أن المفاوضات الروسية الأوروبية قد أوصلت إلى حل، لكنه لم يطبق، وهو يقوم على تشكيل دولة فدرالية، حيث سيكون لروسيا تأثير كبير على المنطقة الشرقية. لكن تريد روسيا الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم، وهو الأمر الذي وقف عائقا من قبل أمام التفاهم بين الطرفين الروسي والأميركي.

لا شك أن المفاوضات بين الطرفين تتناول مسائل كثيرة، لكن يبدو أن هاتين المسألتين هما ما يشكل عقدة في الوصول إلى توافق. فروسيا تريد فك الحصار الاقتصادي الذي فرضته أميركا والتزمت به الدول الأوروبية (رغم عدم تحمس بعضها، مثل ألمانيا)، ولكنها تريد حسم مسألة شبه جزيرة القرم الروسية، والتي جرى ضمها إلى أوكرانيا سنة 1954 خلال وجود الاتحاد السوفياتي، لأنها مدخله البحري الوحيد باتجاه دوره في العالم، وخصوصا في البحر المتوسط.

وأظن بأن أميركا سوف توافق على ذلك أخيرا، كما ستوافق على تشكيل فدرالية أوكرانية بحيث سيبقى لروسيا تأثير حاسم في الشرق الأوكراني، في تصور يقوم على تأسيس تحالف أميركي روسي أوروبي.

في سوريا بات الأمر أقرب لتفاهم أكبر بعد أن شعرت روسيا أن إيران باتت هي التي تقرر فيها بعد أن مسكت بالقرار العسكري والسياسي فيها، ولأن أميركا لا تريد لإيران أن تبقى في سوريا نتيجة “العامل الإسرائيلي”، حيث ستوقع اتفاقا نوويا مع إيران ترفضه الدولة الصهيونية، ولهذا لا بد من إبعاد إيران عن حدودها.

“الروس يصرون على أن الحرب الباردة انتهت ولن تعود، وهذا حقيقي ونتيجة لتشابك الاقتصاد الروسي مع العالمي، وبالتالي فإن كل الخلافات والتوترات التي تحدث بينها وبين أميركا خصوصا هي نتيجة اختلافات حول الدور والموقع كأي خلافات بين بلدان إمبريالية”

وبهذا ستظل مبادئ جنيف1 هي أساس التفاهم الأميركي الروسي. لكن ما يبدو أنه جديد هنا هو أن الطرفين باتا يشعران بأن الحل يفترض إبعاد بشار الأسد، بعد أن تمسكت به روسيا طويلا، ولم تكن أميركا معنية كثيرا بالأمر. لهذا كان الحوار الجديد الذي بدأ قبل وقت قريب ينطلق من البحث في “مرحلة ما بعد الأسد” كما أُشير.

ولا شك أن تسهيل روسيا لاتخاذ قرار في مجلس الأمن تحت البند السابع يخص اليمن كان يؤشر إلى أنها توافق على تحجيم دور إيران التي تمددت “أكثر مما يجب”، وباتت تنافس روسيا ذاتها.

هل يتحقق التفاهم الآن؟ يمكن ذلك لأن روسيا مأزومة نتيجة العقوبات الاقتصادية وانهيار أسعار النفط (الذي جاء ضمن سياسة العقوبات الاقتصادية)، وبالتالي ربما تخلت عن “عنجهيتها”، وعن عدم حساب الوضع الذي وضعها به يلتسين واستمر مع بوتين، رغم ميل هذا الأخير إلى فرض أن تكون روسيا “قوة عظمى”.

ولأن أميركا أيضا تريد “ترتيب” وضع عالمي يسمح لها بأن تدير أزمتها الاقتصادية التي تهددها بشكل مستمر، من أجل تأخير انفجار فقاعة جديدة، أو على الأقل تخفيف آثارها. وكذلك تسريع ترتيب وضع عالمي يحاصر الصين قبل أن تتقدم هذه الأخيرة فتفرض سيطرتها في لحظة ضعف أميركا.

هل ستنجح المحاولة الجديدة للحوار بين الطرفين؟ ربما، حيث سيبدو الوضع أفضل لأميركا، كما يمثل حاجة لروسيا.

الروس يصرون في كل تصريحاتهم على أن الحرب الباردة انتهت ولن تعود، وهذا حقيقي ونتيجة لتشابك الاقتصاد الروسي مع الاقتصاد العالمي، وبالتالي فإن كل الخلافات والتوترات التي تحدث بينها وبين أميركا خصوصا هي نتيجة اختلافات حول الدور والموقع كأي خلافات بين بلدان إمبريالية.

سلامة كيلة

المصدر:الجزيرة نت