تراجع الرئيس رجب طيب أردوغان. أطلق القس الأميركي أندرو برانسون. تدخل لدى القضاء. وكانت الجلسة الأخيرة في محاكمته صورية. استغرقت «الصفقة» وقتاً طويلاً، ودفع الاقتصاد التركي ثمناً باهظاً بسبب العقوبات التي فرضها الرئيس دونالد ترامب على مسؤولين في أنقرة، وبفرضه رسوماً جمركية على واردات الصلب والألمينيوم من تركيا. ليست المرة الأولى التي يرضخ فيها زعيم «العدالة والتنمية»، على رغم تعاليه وكبريائه. قاوم نحو ثمانية أشهر بعد إسقاط الدفاعات الجوية لبلاده طائرة «سوخوي 24» روسية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015. لكنه في النهاية وجه رسالة خطية إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين منتصف عام 2016. وعبر فيها عن أسفه. وعلل خطوته هذه لاحقاً بوصفه ما جرى أنها «حادثة غير مرجوة» ولدت قطيعة استمرت أكثر من نصف سنة، وهي «أمر غير صحيح»، لأن العلاقت بين أنقرة وموسكو «تنطوي على أهمية كبيرة جداً للمنطقة». تراجع عن تعليله السابق بأن إسقاط الطائرة كان جزءاً من الدفاع عن الأمن الوطني.
جملة من الاعتبارات فرضت على الرئيس أردوغان مراجعة حساباته إلى حد الاعتذار وإبداء الأسف. كانت المعارضة في الداخل تقض مضجعه وتهدد سعيه إلى تحويل النظام رئاسياً لاستكمال إحكام قبضته على كل مفاصل السلطة. وكان الاقتصاد يترنح تحت وطأة امتداد النار السورية إلى قلب تركيا ومدنها وساحاتها. فيما أزمة اللاجئين وما خلفته من توتر مع أوروبا تتفاقم. ومثلها العلاقات مع واشنطن بسبب دعم الأخيرة للكرد في سورية. إضافة إلى كل هذه الاعتبارات لم يكن منطقياً أن يخسر التبادل التجاري مع روسيا، وأن يتوقف توافد السياح من هذا البلد إلى المنتجعات التركية التي تساهم بتعزيز خزينة الدولة. والأهم من كل ذلك أن تؤدي القطيعة مع الكرملين إلى تضاؤل الدور التركي في سورية. وهذا ما لا يرغب فيه بعد كل «الاستثمارات» التي زرعها في هذا البلد. إنها حسابات المصالح الاقتصادية والأمنية التي تغلب على الاعتبارات الشخصية، والتي وحدها ترسخ موقعه على رأس الحكم.
يمكن الرئيس أردوغان أن يعلن أن لا صفقة في إطلاق القس برانسون. يريد حفظ ماء الوجه. قبل ثلاثة أشهر، كان يشدد على أن لا تراجع أمام العقوبات الأميركية، وأن لا صفقة مع واشنطن لإطلاق الرجل (أوقف في تشرين الأول/ أكتوبر 2016). كان يأمل بمبادلته بالداعية فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، والذي يتهمه بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية الفاشلة منتصف تموز (يوليو) 2016. وتصاعد التوتر بين إدارة الرئيس ترامب وحكومة أنقرة التي ذهبت بعيداً في التحالف مع طهران وموسكو في الميدان السوري، وأبرمت عقود تسلح مع الأخيرة كأنها تدير الظهر لعضويتها في حلف شمال الأطلسي. لكن تباشير الانفراج بين الطرفين بدأت في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العمومية. التقى زعيما البلدين. وتوقع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الإفراج عن القس قريباً. فعلت العقوبات الاقتصادية فعلها وترنحت الليرة التركية. كما أن قضية إدلب والتفسيرات المختلفة بين موسكو وأنقرة لاتفاق سوتشي بين الرئيسي بوتين وأردوغان والانتشار الإيراني على حدود المنطقة وتعثر تنفيذ «خريطة الطريق» التركية – الأميركية لحل مشكلة منبج… كلها عوامل دفعت الزعيم التركي إلى التراجع. وكان هذا خطوة في سلسلة خطوات فرضتها الأزمة الداخلية. فالرئيس أردوغان طوى صفحة حملاته على دول أوروبية، خصوصاً ألمانيا والنمسا وهولندا وغيرها، وتوجه إلى برلين طلباً للمساعدة.
إطلاق القس برانسون يمهد لمشهد سياسي مختلف في تركيا والإقليم. الرئيس ترامب سجل «إنجازاً» سيوظفه بلا شك في معركة الانتخابات النصفية للكونغرس. شكر الرئيس أردوغان ووعد بعلاقات «ممتازة» مع أنقرة. ولا شك في أن ترجمة ذلك ستكون برفع العقوبات عن مسؤولين أتراك والتراجع عن فرض الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألمينيوم من تركيا. وتجلى ذلك في بدء تعافي الليرة. وليس مستبعداً أن تعيد واشنطن تفعيل «خريطة الطريق» في منبج لإخراج «وحدات حماية الشعب» الكردية من هذه المدينة. وكان لافتاً أن يسارع الزعيم التركي بعد قرار المحكمة الإفراج عن القس الأميركي إلى تهديد الكرد بتحويل خنادق يحفرونها حول المدينة إلى «قبور لهم»! وعتب على واشنطن لأنها لم تنفذ «الخريطة» التي تنص على خروج «وحدات الحماية» وتسيير دوريات مشتركة في هذه المنطقة. لكنه أكد أن بلاده «ستفعل اللازم». فهل تفعل؟ الكرد لم يخفوا مرارتهم مما سموه «خذلان» حليفهم الأميركي في مواجهة حملة «غصن الزيتون» التي شنتها القوات التركية وحلفاؤها من فصائل «الجيش السوري الحر» أول السنة الجارية لطرد «وحدات الحماية» الكردية من منطقة عفرين. وكان لها ما أرادت. تذرعت واشنطن بأن ليست لديها قوات غرب الفرات ولا تعنيها المنطقة تالياً.
مثلما يشكل إطلاق القس رافعة تعين الرئيس ترامب في الانتخابات الشهر المقبل، فإن إعادة الحرارة إلى «علاقات ممتازة» مع أنقرة تتيح للرئيس أردوغان تعزيز موقفه حيال موسكو. عانى الكثير في علاقاته معها، ولا يزال. لذلك، ذهب إلى الصفقة الأخيرة بلا تردد. يمكنه الآن أن يلوح بعلاقته المتجددة مع الولايات المتحدة ومع أوروبا أيضاً للتخفيف من الضغوط الروسية، خصوصاً أنه يلتقي مع الغرب عموماً في رؤيته للتسوية في سورية. فلا حل قبل إجراء انتخابات وإزاحة الرئيس بشار الأسد. فهو يستميت لترسيخ أقدامه في الشمال السوري. وإذا تعذرت عودة اللاجئين السوريين إلى موطنهم، سيتمسك أكثر بمناطق انتشار قواته التي تمددت على مساحة كبيرة توازي مســـاحة بلد مثل لبنان. فهي حاضرة من الباب وجرابلس وأعزاز إلى عفرين، ومن جنوب حلب وغربها إلى إدلب وشمال حماة وجسر الشغور وحتى مشارف ريف اللاذقية الشمالي، بعمق يصل إلى نحو مئة كيلومتر… تحت شعار نقاط المراقبة والإشراف على «منطقة خفض التوتر» وتنفيذ اتفاق سوتشي وإقامة المنطقة العازلة بين قوات النظام وحلفائها من جهة وفصائل المعارضة من الجهة الأخرى.
ولن تتردد أنقرة، في ضوء المشهد السياسي الجديد في تحويل هذه المنطقة إلى ما يشبه «قطاع غزة» أو «سورية المصغرة» كما سماها المتظاهرون في إدلب قبل أسابيع. أي إقامة إدارة ذاتية بانتظار التـــسوية التي قد تتأخر إلى ما بعد نهاية ولاية الرئيس الأسد عام 2021. وقد تمهد «الحكومة الموقتة» (المعارضة السورية) لمؤتمرات وطنية تنتهي بإقامة مؤسسات بديلة من القائمة (الائتلاف الوطني ما شابه) لإدارة هذه المنطقة وإعدادها لاستقبال اللاجئين إلى تركيا وغيرها. خصوصاً أن إدارة الرئيس ترامب بدلت سياستها وأكدت البـــقاء شـــرق البلاد، حيث أقامت حتى الآن نحو 22 قاعدة، وهي تساعد الكرد، عتاداً عسكرياً ومالياً وخبراء مدنيين وديبلوماسيين، على إقامة إدارة مستقلة عن دمشق. هكذا تنفتح الأزمة السورية على مشهد استراتيجي جديد لا يلائم المشروع التي عملت له روسيا طويلاً منذ بداية تدخلها العسكري. ولا في أن الكرملين يرتاب هذه الأيام من عودة التلاقي التركي – الأميركي. لذا كانت لافتة مسارعة وزير الخارجية سيرغي لافروف إلى اتهام واشنطن بأنها تسعى إلى تقسيم بلاد الشام وربما السعي إلى إقامة «كردستان الكبرى»! كأنه يغازل الرئيس أردوغان الذي لا يزال يلوح بـ «استئصال أوكار الإرهاب شرق الفرات». بالطبع لا روسيا ولا تركيا مستعدتان لشن حرب على الشرق السوري والمغامرة بمواجهة واسعة مع القوات الأميركية.
حتى الآن تبدي روسيا رضاها عن حسن تنفيذ تركيا اتفاق سوتشي، فحتى «جبهة النصرة» تراجعت إلى خلف المنطقة العازلة، وتدرك قيادتها أن ليس في مقدورها مخالفة إرادة أنقرة. يبقى السؤال ماذا يفعل الكرملين أمام تصميم الولايات المتحدة على البقاء شرق سورية حتى خروج الإيرانيين وميليشياتهم من هذا البلد، وأمام تصميم تركيا على البقاء «طويلاً» في الشمال إلى حين الإفراج عن التسوية؟ هل يرضخ لهذا الواقع التقسيمي ما دام عاجزاً أو هو لا يرغب في إنهاء الوجود الإيراني قبل صفقة مربحة مع البيت الأبيض، ويكتفي بما أخذ لنفسه والنظام الذي يعيق عودة اللاجئين يساعده رفض الغرب عموماً المساهمة في إعادة الإعمار قبل أن يرى التغيير المطلوب؟ أم أن بلاد الشام دخلت فعلاً فصل التقسيم الفعلي الموقت أو الدائم؟ «صفقة» الإفراج عن القس الأميركي وتداعياتها تقلب المشهد في سورية، وتدفع جميع المنخرطين إلى قواعد جديدة بانتظار صفقة كبرى قد تنتهي بترسيخ الحصص على حساب الجغرافيا السورية إذا أصر هؤلاء على مواقفهم!
جورج سمعان
الحياة