أعلن متحدث باسم “مبادرة مستقبل الاستثمار” الذي سيعقد في الرياض، أن المؤتمر يمضي قدما نحو الانعقاد مع برنامج معدل يشمل رؤساء دول من العالم العربي وأفريقيا وآسيا، وذلك إثر انسحاب لفيف من وزراء الاقتصاد والمسؤولين في المؤسسات المالية الدولية ورؤساء الشركات الغربية، على خلفية قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وفي خطوة تكشف مدى تداخل السياسة مع الاقتصاد، وكيف ستتجاوز الشركات الغربية هذا المأزق خاصة وأن الشركات الآسيوية أكدت على مشاركتها في المؤتمر ما يعني منافسة قوية على سوق الاستثمار في السعودية التي أكدت على الفصل بين مختلف القضايا وأن لا شيء يمكن أن يعيق مسار الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.
موسكو – في خضم الجدل حول قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي وحالة الارتباك التي سادت قرارات ومواقف عدد من الحكومات في علاقتها بالرياض، اختارت روسيا، ودول أخرى صاعدة مثل الصين واليابان، كما الشركات الآسيوية، تغليب المصالح السياسية والاقتصادية وعدم التدخل في عمل المؤسسات القانونية، وجسدت بذلك التمسك بمشاركتها في المؤتمر السعودي للاستثمار (دافوس الصحراء).
وتعرّضت الرياض لضغوط دولية إثر اختفاء خاشقجي بعد دخوله قنصلية بلاده في إسطنبول في 2 أكتوبر، في قضيّة دفعت بالعديد من المسؤولين ورجال الأعمال الغربيين إلى إلغاء مشاركتهم في مؤتمر اقتصادي تنظمه الرياض الأسبوع المقبل.
وترى روسيا أنه من الضروري انتظار نتائج التحقيق النهائي في تركيا، قبل تخريب العلاقات مع المملكة العربية السعودية، مشددة على أنها تعول أن تحل هذه القضية في الإطار القانوني، وأنها ستشارك في مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في السعودية.
ويشاطر الصحافي الأميركي بول مارينغوف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوله “لا يمكننا إفساد العلاقة مع السعودية ما لم تكن لدينا حقائق ملموسة”.
وكتب مارينغوف قائلا “من وجهة نظري، يجب ألا يتسبب مقتل خاشقجي في تغيير الولايات المتحدة لسياستها الخارجية بشكل جوهري”.
وأضاف منتقدا الأصوات المنادية إلى التصعيد السياسي ضد السعودية وحتى قطع العلاقات معها “سيكون من الغباء أن نغير العلاقة بشكل جذري. إن علاقتنا الوثيقة مع السعودية قائمة على المصالح المتبادلة والخصوم المشتركين”.
أيضا، لم تبد الشركات في الصين واليابان أي بادرة انسحاب من المؤتمر ولا حتى أظهرت دلائل محدودة في هذا الاتجاه، وفي المقابل قد تخسر الشركات الأميركية والأوروبية أنشطة إذا ظلت على موقفها غير المكترث تجاه الرياض لفترة أطول كثيرا.
وألغى أكثر من عشرين من كبار المسؤولين والتنفيذيين من الولايات المتحدة وأوروبا، بمن فيهم وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين والرئيسان التنفيذيان لبنكي جيه.بي مورجان واتش.اس.بي.سي، خططهم لحضور مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار بسبب القلق بشأن قضية خاشقجي.
ولا يبدو أن ذلك سيحول دون المضي قدما في انعقاد المؤتمر في ظل اشتراك أكثر من 150 متحدثا وما يزيد على 140 مؤسسة ابتداء، لكن هذا يجرد المؤتمر من معظم الشخصيات المؤثرة.
وإذا كان مديرو شركات كبرى لن يتوجهوا إلى الرياض، فإن بعضهم سيرسل موفدين على غرار مجموعة تاليس الفرنسية. وذكرت وكالة بلومبرغ أن بعض المصارف الكبرى سيقوم بالخطوة نفسها. ويقول جايسون توفي، كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة لدى كابيتال إيكونوميكس، إن “كثيرين سيحرصون على الحفاظ على علاقات وثيقة مع الحكومة” السعودية، على غرار مجموعة سيمنز الألمانية التي أكدت مشاركة رئيسها في المؤتمر السعودي.
كذلك، يصعب أن تتم قطيعة بين السعودية والقطاع التكنولوجي الأميركي، لا سيما أن السعوديين استثمروا في شكل كبير في “سيليكون فالي” التي تسعى في المقابل إلى الفوز بعقود مرتبطة بالمشاريع المقبلة في رؤية السعودية 2030 وخاصة مشروع نيوم.
وقال متحدث باسم المؤتمر السعودي للاستثمار، إن المؤتمر يمضي قدما نحو الانعقاد مع برنامج معدل يشمل رؤساء دول من العالم العربي وأفريقيا وآسيا، مضيفا “نتطلع إلى استقبال الآلاف من المتحدثين والمشرفين والضيوف من جميع أنحاء العالم إلى الرياض في الفترة من 23 إلى 25 أكتوبر”.
توحي “المقاطعة” الغربية للمؤتمر الاقتصادي في الرياض بأن القضية قد تلحق الضرر بطموحات المملكة لجذب رأس المال الأجنبي وتنويع موارد اقتصادها بدلا من الاعتماد على النفط.
ولفت المراقبون إلى سرعة إعلان بعض الوزراء والمسؤولين الغربيين مقاطعة دافوس الصحراء، حتى قبل التطورات الأخيرة بشأن مقتل خاشقجي، واعتراف الرياض بوفاة خاشقجي داخل قنصليتها في إسطنبول؛ الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عما بين سطور هذا الموقف، وإلى أي مدى يمكن ربطه برؤية السعودية 2030 وكل ما له علاقة بمشاريع الإصلاح استعدادا لمرحلة ما بعد النفط، وهل الهدف الحقيقي دفاع عن حرية التعبير بقدر ما أم استهداف للمشروع التحديثي.
ويرى الكاتب العراقي فاروق يوسف أن هناك رابطا لا يمكن إغفاله بمراجعة سير تطورات القضية، كما تطورات العلاقات السعودية الأخيرة مع عدد من الحكومات والمسؤولين الغربيين.
ويعتبر فاروق يوسف أن “تحديث السعودية وفتح أبوابها ونوافذها على العصر لم يرق للكثيرين الذين طالما ابتزوا المملكة بالحديث عن الإصلاح وحقوق الإنسان”. ويضيف أن “الإصلاح الذي يليق بالسعودية من وجهة نظرهم لا يتخطى مثلا منح المرأة حق قيادة السيارة. هذه هي الحدود القصوى المسموح بها. وليبق البلد كله نائما في نعيمه المتخيل”.
ولا ينفي المراقبون مسؤولية الرياض في كل ما يجري من جدل وتوتر ومواقف متداخلة، خاصة من جهة التعاطي الإعلامي، ومن جهة أخرى الموقف السعودي الذي تراوح بين الصمت والنفي ثم الاعتراف بأن خاشقجي قتل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول.
ويقول مسؤولون تنفيذيون ومحللون إنه كان على السعودية أن تكون أكثر يقظة وتتخذ خطوات من قبيل تبديد الغموض من الأيامالأولى للقضية، ومع تواتر التسريبات، ومراعاة توقيت المؤتمر كمناسبة تهدف إلى أن تثير الاهتمام بفرص الاستثمار السعودية.
تؤكد التجارب أنه في مثل هذه المواقف تنتصر المصالح الاقتصادية على شعارات “حقوق الإنسان”، فمثلا بعد مقتل طلاب باحتجاجات بكين في يونيو 1989، انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر ما يزيد على 20 بالمئة في النصف الأول من 1990، لكنه، وبعد عام تقريبا، عاد للنمو بقوة مجددا.
وتظهر تحركات الأسواق العالمية قلق المستثمرين إزاء قضية خاشقجي، لكن ليس بقدر حالة الخوف التي انتابتهم بعد أن بدأت أسعار النفط في التراجع في 2014.
ومع خشية الشركات الغربية من المخاطرة بسمعتها في إبرام صفقات والانكشاف المحتمل على أي عقوبات تُفرض بشأن قضية خاشقجي، من المرجح أن تعلق معظم الأنشطة الجديدة في السعودية، لكن لبعض الوقت.
وربما يُطبق التجميد على العقود أو الاستثمارات الغربية الجديدة في السعودية، وعلى البرنامج الخاص بالحكومة السعودية لشراء أصول شركات بالخارج عبر صندوق الاستثمارات العامة التابع للمملكة والبالغ حجمه 250 مليار دولار.
وقال أيهم كامل مدير الشرق الأوسط لدى مجموعة أوراسيا لاستشارات المخاطر السياسية، “معظم الشركات الغربية ستتعرض لضغوط لإعادة النظر في انكشافها على السعودية في ضوء قضية خاشقجي”.
لكن تجميد الصفقات الجديدة قد يبدأ في الانحسار خلال أشهر قليلة. فهناك الكثير الذي قد تخسره شركات غربية عديدة إذا تخلت عن أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط. وأسرّ البعض لوكالة رويترز بأن الشركات سترسل مسؤولين تنفيذيين على مستوى منخفض إلى المؤتمر. وقال لاري فينك الرئيس التنفيذي لشركة إدارة الاستثمار الأميركية بلاك روك، إنه ينسحب من المؤتمر لكنه لن يقطع العلاقات مع السعودية لرغبته في “الحفاظ على العلاقات التي عكفنا عليها لفترة طويلة”.
وقال جيسون توفي “في العام الجديد ربما يبدأ الأثر في الانحسار، لا سيما أنه يبدو أن الولايات المتحدة تساعد السعودية ليصبح الحادث طي النسيان”.
ولئن توعد الرياض بعواقب “وخيمة جدا” إذا ثبتت مسؤوليتها، ذكّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب مرارا بالثقل الاقتصادي لحليفه السعودي. وأكد حرصه على عدم خسارة “عقد (تسلح) ضخم” يقدر قيمته بـ110 مليارات دولار. وقال ترامب إنه يريد حماية التعاون الأمني لواشنطن مع السعودية ومبيعات معدات عسكرية بالمليارات من الدولارات إلى الرياض.
وفي خطاب مزدوج، شدّد وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت على أن “المزاعم المتعلقة بقضية الكاتب الصحافي السعودي لن تكون مقبولة إطلاقا”، غير أنه أضاف أن “لبريطانيا علاقة إستراتيجية مع السعودية”، وأن أي رد فعل من جانبها سيكون “محل دراسة”.
ويتوقع جيسون توفي وآخرون أن تكون تكلفة أي عقوبات محدودة. والخيار الأكثر نقاشا بين السياسيين الأميركيين هو ما يُطلق عليه قانون ماجنيتسكي، الذي يمكن أن يفرض حظرا على التأشيرات وتجميدا لأصول الأفراد في قضايا تتعلق بحقوق الإنسان.
وقال مصرفي خليجي، يعمل مع السعودية، إنه أيا كانت خاتمة قضية خاشقجي، فإن فرص تحقيق أرباح من رسوم ترتيب الصفقات لصالح صندوق الاستثمارات العامة ستجعل البنوك الغربية “تعود جاثية على ركبتيها تطلب العمل” منه.
حتى بعد استئناف علاقات العمل الطبيعية مع الغرب، فإن قضية خاشقجي قد تلقي بظلالها على تدفقات الاستثمار الأجنبي على السعودية. وربما تكون الشركات الغربية حريصة على تحقيق أرباح من الرسوم والفوز بعقود، لكن إدراك تزايد المخاطر السياسية قد يقيد الاستثمار الأجنبي المباشر.
وقالت مصرفية خليجية إنها تتلقى أسئلة كثيرة بشأن قضية خاشقجي من عملاء أجانب، مشيرة إلى أن الأمر يتجاوز قضية خاشقجي ليطرح على الطاولة مختلف الأوراق محل جدل دولي-سعودي. وقالت “إنها تراكمات حرب اليمن والنزاع مع قطر والتوترات مع كندا وألمانيا وحملة الاعتقال. يعطي هذا انطباعا بالاندفاع في صنع السياسات، وهو ما يثير بواعث قلق عند المستثمرين”.
وإذا تبين أن مجموعة صغيرة من السعوديين مسؤولون عن موت خاشقجي وجرت معاقبتهم بتلك الوسيلة، فإن الأمر قد يكون مبعث حرج للرياض لكن دون أثر اقتصادي يذكر. وإذا تفادت الرياض عقوبات كبيرة بخصوص القضية، فمن المحتمل أن تظل تواجه تعاطفا أقل من جانب الكونغرس الأميركي. وقد يؤدى هذا على سبيل المثال إلى إحياء مساع للموافقة على تشريع يعرض منتجي النفط بأوبك إلى دعاوى قضائية تتعلق بمكافحة الاحتكار.
ويخشى البعض من أن القضية قد تُضعف السلطة المحلية لولي العهد الأمير محمد بن سلمان بما يتسبب في اضطراب سياسي أو يبطئ سعيه الإصلاحي. وأدت الإصلاحات والحملة على الفساد إلى فوز الأمير محمد بن سلمان بدعم الكثير من السعوديين. وقال مصرفي في الرياض “نحن قلقون من أن هذا قد يعرقل كل العمل الذي بُذل خلال السنة الأخيرة في سبيل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية”.
وفي المقابل، يؤكد مراقبون سعوديون أن بلادهم بعد أن خطت خطوات كبيرة في طريق التغيير، لن تتراجع ولن تكرر أخطاء سابقة بالصمت وتقليص الحضور، وأن مشروع رؤية السعودية 2030 يتجاوز شخص الأمير محمد بن سلمان، ليشمل أغلب السعوديين، خاصة الشباب.
العرب