جريمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، لم تنحرف عن سياقها الجنائي، وتتحوّل بشكل رئيسي إلى مادّة إعلامية بمحض الصدفة، بل بإرادة سياسية رغبت في استثمار الحادثة إلى أقصى حدّ ممكن، وما تزال تعمل على ذلك من خلال حرف الأضواء عن التحقيقات ونتائجها، وعن الرواية السعودية للأحداث، صوب المعلومات غير الموثقة وتسريبها بجرعات محسوبة، بعد أن بدا أن رواية الرياض منطقية ومثار اهتمام الأطراف الجادة في البحث عن الحقيقة بعيدا عن الخلفيات الأيديولوجية والمآرب السياسية.
أنقرة – انصبّت الجهود التركية خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، بشكل واضح، على محاولة الحفاظ على المستوى العالي من الضجيج الإعلامي حول قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والإبقاء على الأضواء مسلطة صوب إسطنبول، بعد أن نجحت الرياض في أخذ المبادرة إعلاميا من أنقرة التي استنفدت لعبة تسريب “المعلومات” بجرعات محسوبة وبطريقة “سينمائية مشوّقة”.
وبدت تركيا، وتحديدا حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي ينتمي إليه الرئيس رجب طيب أردوغان، قلقة من التفات المجتمع الدولي والرأي العام العالمي إلى الرواية السعودية بشأن مقتل خاشقجي في سفارة بلاده بإسطنبول، وانغماس الساسة والإعلاميين وقادة الرأي في تحليلها وقراءتها.
ومنذ تفجّر قضية الصحافي خاشقجي، بدا أنّ الجزء الأهم منها يُلعب على أرضية الإعلام، وداخل كواليسه، حيث سارعت وسائل إعلام ذات أجندات سياسية، ومموّلة من جهات معادية للسعودية، إلى خلق هالة غير مسبوقة حول مقتل الصحافي، رغم أن جرائم كثيرة مشابهة وقعت في عدّة بلدان ولم تحظ بهذا الكمّ من التغطية، على الرغم من بشاعتها والإجماع على إدانتها.
ووجد الإعلام في التسريبات التركية مادة ثرية لإشعال خيال المتلقّين بروايات وسيناريوهات، وصل بعضها حدّ الغرائبية. ومن جهتها وجدت تركيا مصلحة في حرف القضية عن سياقها الجنائي واعتماد التسريبات بدل المعلومات المتأتية من تحقيقات جادّة، وذلك لربح الوقت، ريثما تجد القيادة التركية المعروفة بتقلّب مواقفها وإغراقها في الانتهازية، أفضل طريقة لاستثمار حدث مقتل الصحافي السعودي.
وقال معارضون أتراك إنّ حكومة أردوغان أعلت من سقف طموحها في الاستفادة من القضية، وأدخلتها ضمن سياق علاقاتها المتوتّرة مع الولايات المتحدة المرتبطة بعلاقات حيوية مع السعودية.
وأكّد هؤلاء أنّ من ضمن الأهداف التي سعت إليها أنقرة خلال مساومتها لواشنطن، رفع العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة، وفكّ ارتباط الأخيرة بأكراد سوريا والكفّ عن دعمهم، ودفعهم إلى الانسحاب من الأراضي التي يسيطرون عليها بالشمال السوري.
وتمثّل قضية أكراد سوريا وجع دماغ مزمنا في رأس تركيا. وقال رئيس البرلمان التركي بن علي يلدريم الاثنين إنّه “من المخزي للولايات المتحدة التي نعتقد أنها حليف لبلادنا، أن تقيم تعاونا استراتيجيا مع منظمات إرهابية”، في إشارة إلى التنظيمات الكردية النشطة بشكل أساسي على الأراضي السورية، إضافة إلى الأراضي العراقية.
لتركيا مصلحة في حرف القضية عن سياقها الجنائي واعتماد التسريبات بدل المعلومات الموثقة بحثا عن أفضل طريقة لاستثمار الحدث
وربط المعارضون الأتراك عودة أردوغان وحزبه إلى التهديد بتسريب المزيد من “المعلومات” حول قضية خاشقجي بالفشل في بلوغ أي من الأهداف المنشودة.
وفي نطاق سعيها لاستعادة المبادرة من الرياض، وضعت أنقرة سيناريو محكما لجلب الأضواء نحوها، ووظفت في ذلك عامل التشويق، من خلال جعلها الثلاثاء (اليوم) يوما مفصليا للكشف عن حقيقة مقتل خاشقجي، وكثّفت الإعلان عن ذلك عبر وسائل إعلامها، وعلى ألسنة كبار مسؤوليها.
وقال الرئيس التركي رجب طّيب أردوغان إنّه “سيعرّي الحقائق كافة” بشأن مقتل الصحافي السعودي، خلال خطابه الثلاثاء أمام الكتلة البرلمانية لحزبه.
وإمعانا في صنع هالة إعلامية حول ما وعدت به أنقرة من “كشوف” بشأن قضية خاشقجي، أُعلن الاثنين، أن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو سيتناول “مستجدات” قضية مقتل الصحافي السعودي، في لقاء إعلامي يجريه صباح الثلاثاء.
واشتركت المؤسسات الرسمية للدولة التركية، والهياكل الحزبية للعدالة والتنمية، في عملية سحب الأضواء من السعودية. وقال عمر جليك المتحدّث باسم حزب أردوغان إنّ “جريمة قتل خاشقجي معقدة وسيحاسب المسؤولون عنها”.
وأضاف في مؤتمر صحافي عقده الاثنين بمقر الحزب في أنقرة “قتلة خاشقجي بذلوا مجهودا كبيرا لطمس آثار جريمتهم لكن نتائج التحقيق ستظهر”.
ولم ينجح جليك في إخفاء الدافع الحقيقي من الضجّة التي عادت تركيا لإحداثها بشأن قضية خاشقجي والمتمثّل في سحب البساط من السعودية التي نجحت في استعادة المبادرة الإعلامية، وحصر القضية بيد تركيا بهدف استغلالها وتوظيفها سياسيا. وعبّر الناطق باسم العدالة والتنمية عن ذلك بعبارة مختصرة وموحية حين قال “الكشف عن حقيقة مقتل خاشقجي مسؤوليتنا”، محاولا القفز على الدور السعودي الضروري في كشف ملابسات القضية وخفاياها.
وفي ظل التضارب الشديد في المعلومات وتدخلّ الإعلام بشكل كبير في القضية، آثرت السعودية التريّث، قبل تأكيدها مقتل جمال خاشقجي في مقر القنصلية بإسطنبول، كاشفة عن تجاوز الفريق الذي تمّ إيفاده للتحاور مع الصحافي المعارض بشأن العودة إلى بلاده، عن المهمّة المحدّدة له، ودخوله في عراك مع الرجل أفضى إلى مقتله، ما جعل أعضاء الفريق يعملون على طمس آثار العملية، واللجوء إلى تضليل سلطات الرياض التي أعلنت عن إخضاع جميع المسؤولين عن مقتل الصحافي للتحقيق، متوعّدة بمعاقبتهم.
العرب