الآن، بعد عامين من محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، ما تزال الرواية الرسمية حول ما حدث ليلة الانقلاب تترك الكثير من الأسئلة من دون إجابة. لكن ما هو واضح هو أن إردوغان، كما قال علناً يوم 17 تموز (يوليو) 2016، رأى في الانقلاب فرصة -ليس لتأكيد سيطرته الشخصية على الجيش فحسب، وإنما لمحاولة إعادة تشكيل هيئة الضباط حسب صورته الذاتية. وفي حين أن هيئة الأركان العامة عكست قيمها نحو الخارج على المجال السياسي، فإن أردوغان هو الذي أصبح يعكس قيمه على هيئة الأركان العامة.
* * *
في 9 تموز (يوليو) 2018، عين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رئيس الأركان آنذاك، الجنرال خلوصي أكار، في منصف وزير الدفاع الجديد للبلاد. وقبل عقد من الزمان، كان يُنظر إلى تعيين ضابط رفيع المستوى في الحكومة على أنه تمديد للظل الذي اعتاد الجيش أن يلقيه في السابق على السياسة التركية. وبدلاً من ذلك، أصبح يُنظر إليه اليوم على أنه إشارة إلى المدى الذي قطعه أردوغان في اتجاه التسبب بتآكل المؤسسات التركية، والذي حوّل به هيئة الأركان العامة للجيش التركي، التي كانت تتمتع بنوع من الحكم الذاتي في السابق، إلى أداة لتعزيز سلطته الشخصية.
خلال السنوات الأولى التي كان فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم في السلطة، كان أردوغان يتحرك بحذر، مقتنعاً بأن أي خطوات غير محسوبة تعرض خطر الإطاحة به من خلال انقلاب عسكري. ولم يكن إلا في العام 2007، بعد أن فشل رئيس الأركان في حينه، الجنرال ياسر بيوكانيت، في تنفيذ تهديده بتنظيم استيلاء عسكري على السلطة إذا قام حزب العدالة والتنمية السياسي الإسلامي بتعيين عبد الله غول في الرئاسة، عندما أدرك أردوغان أخيراً ما كان يعرفه معظم الجنرالات في الجيش منذ سنوات -أن عهد الوصاية العسكرية على البلاد قد انتهى. وعندما أصبح واثقاً من أنه لم يعد في حاجة إلى الخوف من هيئة الأركان العامة، أيد أردوغان ذلك الوابل من القضايا التي رُفعت في المحاكم ضد الجيش -بما في ذلك تحقيقات إيرغينكون وسليدجهامر سيئة السمعة- التي أثارها حلفاؤه السابقون في حركة غولن، والتي استهدفت بشكل خاص العناصر العلمانية المتشددة في هيئة الضباط. وكان لتلك القضايا تأثير مدمر على معنويات الضباط، فيما يرجع جزئياً إلى المعرفة السائدة في الجيش بأن هذه المزاعم ملفقة. لكن السبب الرئيسي في تدني المعنويات هو أن القيادة العليا لم تبذل مجهوداً يعتد به لمنع توجيه الاتهام إلى الضباط وسجنهم، أو لتخفيف المعاناة التي تحملتها عائلاتهم.
وحتى عندما كان نظام الوصاية العسكرية في أوجه، تباين النفوذ السياسي الذي تتمتع به هيئة الأركان العامة من حيث الاتساع والعمق بين مجالات السياسة. ومع استمرار قضايا المحاكم التي قادها الغولنيون، شرع نطاق النفوذ العسكري في الانكماش وأصبح محصوراً بشكل متزايد في مناطق “الأمن القاسي”، مثل الحرب مع حزب العمال الكردستاني. بحلول العام 2015، لم تعد هيئة الأركان العامة للجيش قادرة على ممارسة أي نفوذ في المجالات غير العسكرية، بل إنها استسلمت لإردوغان حتى في المجالات التي كانت تعتبرها ذات يوم ملكاً طبيعياً لها، مثل القرارات المتعلقة بمشتريات الدفاع. ولكن، على الرغم من أن القضايا والمحاكمات استهدفت أفراداً من هيئة الضباط، بمن فيهم رئيس الأركان السابق الجنرال إيلكر باسبوج، الذي سجن لمدة عامين خلال تحقيقات إيرغينيكون، فإن إردوغان لم يبذل سوى محاولات قليلة للتدخل في الأعمال الداخلية للجيش كمؤسسة. وعلى الرغم من أنها لم تعد تستطيع أن تملي إرادتها على الحكومة المدنية، فقد كان بوسع القيادة العسكرية العليا أن ترفض قرارات أردوغان من حين لآخر، عندما حاول أن يمليها عليها -كما حدث في حزيران (يونيو) 2015 عندما رفضت هيئة الأركان العامة تنفيذ أمر إردوغان بإطلاق توغل عسكري داخل سورية. لكن هذا الواقع تغير بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15-16 تموز (يوليو) 2016، حيث تم تفكيك آخر بقايا قدرة الجيش على تحدي إردوغان.
الآن، بعد عامين، ما تزال الرواية الرسمية حول ما حدث في ليلة محاولة الانقلاب تترك الكثير من الأسئلة من دون إجابة. لكن ما هو واضح هو أن إردوغان، كما قال علناً يوم 17 تموز (يوليو) 2016، رأى في الانقلاب فرصة -ليس لتأكيد سيطرته الشخصية على الجيش فحسب، وإنما لمحاولة إعادة تشكيل هيئة الضباط حسب صورته الذاتية. وفي حين أن هيئة الأركان العامة عكست قيمها نحو الخارج على المجال السياسي، فإن أردوغان هو الذي يعكس الآن قيمه على هيئة الأركان العامة.
جاءت أول علامة على التغيير في آب (أغسطس) 2016، مع إطلاق عملية درع الفرات العسكرية في شمال سورية. ولم يقتصر الأمر على عدم قيام الجيش بأي محاولة لمنع إطلاق العملية، وإنما تمكن أردوغان أيضاً من اختيار قائدها، ضابط القوات الخاصة اللفتنانت جنرال زيكاي أكساكي، الذي تمت الإشادة به في وسائل الإعلام المؤيدة لحزب العدالة والتنمية كواحد من أبطال المقاومة التي تصدت لمحاولة الانقلاب في الشهر السابق. وكانت النتيجة فوضى عسكرية كاملة؛ حيث وجد آكساكالي نفسه مسؤولاً عن قوات، مثل الدروع والمدفعية، والتي يمتلك خبرة قليلة فيها.
كما استخدم أردوغان محاولة الانقلاب الفاشلة لبدء عملية إصلاح جذرية لكل من هيكلية الجيش والطرق التي يتم من خلالها تدريب أجيال جديدة من الضباط وتلقينهم. في السابق، كان الجيش قد استخدم فعلياً نظاماً تعليمياً خاصاً به، بدءا من المدارس الثانوية العسكرية، واستمراراً إلى الأكاديميات العسكرية. ومن الناحية النظرية، اتبعت المدارس الثانوية العسكرية المنهج الوطني. وفي الممارسة العملية، تم تكييف هذا المنهج واستكماله من أجل غرس مبادئ الكمالية. وتم فحص الطلاب الذين يدخلون الأكاديميات بعد تخرجهم من المدارس الثانوية المدنية -ليس دائماً بنجاح- بهدف استبعاد من يُشتبه في كونهم معاديين للكمالية. وبعد الانقلاب الفاشل في تموز (يوليو) 2016، تم إلغاء المدارس العسكرية الثانوية وتم تحويل إدارة الأكاديميات العسكرية من هيئة الأركان العامة إلى وزارة التعليم الوطني. وسوف يفضي هذا، من الناحية العملية، إلى الدمج المؤسسي والأيديولوجي للأفراد العسكريين في التيار التعليمي التركي السائد، حيث لم يغير أردوغان المناهج فحسب، وإنما حاول التحكم بصرامة أيضاً في كيفية تدريسها لتلقين الأجيال المستقبلية قيمه الإسلامية السنية المحافظة الخاصة. وبالإضافة إلى ذلك، في أعقاب الانتقال إلى الرئاسة التنفيذية في 9 تموز (يوليو) 2018، أصبح أردوغان -وليس كبار قادة الجيش- هو المسؤول عن الترقيات؛ حيث يكون ولاء الضابط المتصور للرئيس -وليس كفاءته- هو المفتاح للتقدم الوظيفي.
ومن المرجح أن تكون النتيجة تآكلاً إضافياً لكفاءة الجيش التركي وقدراته التشغيلية. ولكن، على الرغم من أن أردوغان كان يفرض بإيقاع سريع تفضيلاته الشخصية من خلال التسلسل الهرمي العسكري، فإنه يترتب أن تمر 20 سنة على الأقل قبل أن يبدأ الطلاب العسكريون الذين يتخرجون الآن من الوصول إلى المناصب العليا. وبحلول ذلك الوقت، من المرجح أن يكون أردوغان قد رحل منذ فترة طويلة، تاركا خلفه ضابطاً مسيّساً بشدة أكثر من كونه ضابطاً متسماً بالأهلية والجدارة.
الغد