يعتقد الصحفي روبرت دي. كابلان بأن العيب في الشرق الأوسط هو الافتقار إلى الإمبريالية، ويحث على عودتها. وهو يقول إنها الطريقة التي كان معظم العالم يُحكم بها في الوضع “الافتراضي”. وهذه الحجة غير تاريخية على الإطلاق، وسيئة المشورة إلى درجة تضيّق النفَس.
قبل كل شيء، ليست “الإمبريالية” مصطلحاً دقيق الدلالة. ويحاول كابلان في الحقيقة تجميع أنواع مختلفة من الإمبراطورية تحت عنوان واحد. ينبغي الاعتراف بأن الناس في الشرق الأوسط كانوا يقبلون حتى أوائل القرن العشرين بالإمبراطورية العثمانية، التي يحكمها مسلمون والتي رتبت الحد الأدنى من المطالب الاقتصادية عليهم، في حين تعرض الحد الأدنى من الحكم. لكنه كان عند تلك النقطة بالتحديد عندما شرعت الإمبراطورية العثمانية في بناء السكك الحديدية من أجل إقامة الحاميات في المحافظات، وفي تقديم بيروقراطية حديثة أكثر تطلفاً، حين شرعت في مواجهة معارضة من النخب المحلية، مثل الحكام الهاشميين لمكة وفي الحجاز. كما كان صعود القومية أيضاً شأناً قاتلاً للإمبراطورية، سواء كانت عثمانية أو من أي نوع آخر.
تشكل الإمبريالية الاقتصادية الرأسمالية من النوع الأوروبي ظاهرة جديدة في تاريخ العالم، وقد تبيّن أنها حظيت بقدر أقل كثيراً من الترحيب في الشرق الأوسط مقارنة بما حظيت به الأساليب العثمانية اللامركزية في الحكم. ولم تكن الإمبراطوريات الأوروبية في آسيا وأفريقيا تهتم بصحة رعاياها. ويقدر المؤرخون أن المناطق المستعمرة كانت تسهم في بدايات القرن التاسع عشر بما نسبته 15 في المائة من دخل الدولة الأم صاحبة المستعمرة، وهو هامش يحتمل كثيراً أن يكون قد ساعد التقدم التكنولوجي والاقتصادي في أوروبا. وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وفر المطاط والنفط من جزر الهند الشرقية (الإندونيسية) ما يقرب من 25 في المائة من الناتج القومي الإجمالي لهولندا. وبكلمات أخرى، سرق الهولنديون مليارات الدولارات من الإندونيسيين. وفي الحقيقة، كانت الإمبراطورية الأوروبية وحشية. وقد شغَّل أسياد العمل الأوروبيين عمال المزارع حتى الموت. وبما أن الأجانب لم يكونوا محبوبين، فقد كان من الضروري في بعض الأحيان ارتكاب مذابح بحق السكان المحليين. وقد أعمل الجيش الألماني المدافع الرشاشة ضد القبائل الناميبية المسلحة تسليحاً بدائياً كتمهيد لمذابح الحرب العالمية الأولى في أوروبا نفسها. وعادة ما دمر حفظة أرشيفات الإمبراطورية الوثائق التي شهدت على الوحشية وطابع الإبادة الجماعية اللذين وسما الإمبريالية الاقتصادية الأوروبية.
لم يكن الشرق الأوسط الواقع إلى الشرق من قناة السويس خاضعاً لحكم الإمبريالية الاقتصادية الغربية لأي فترة زمنية يعتد بها، وقد تمكن المحليون من طرد الإمبرياليين بعد الحرب العالمية الثانية من حيث لم يكونوا قد فعلوا ذلك من قبل. كانت بريطانيا فقط قد احتفظت بالعراق من العام 1917 وحتى 1932؛ لكنها لم تكن قد سيطرت أبداً على ذلك البلد الذي كان يقوم بانتفاضات متواصلة، والتي كان سلاح الجو الملكي البريطاني مكلفاً بإخمادها بالقصف الجوي. وقد تمكنت الغارات الجوية من تشتيت الرعاة الرحل أو حتى القرويين مؤقتاً، لكنها لم تتمكن أبداً من جعلهم يستسلمون. وكان السير آرثر “القاصف” هاريس هو الذي خطط لهذه الغارات؛ ثم تورط بعد ذلك في القصف وإلقاء القنابل الحارقة على ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. وكان ضباط سلاح الجو البريطانيون يخشون في العشرينيات من أن يعرف الجمهور البريطاني عن الكيفية التي تتم بها السيطرة على العراق فعلياً، بحيث تنجم عن تلك المعرفة موجة من مشاعر الاشمئزاز. وبحلول العام 1932، كان البريطانيون سعداء بما يكفي ليدعوا العراق وشأنه، بعد عقد ونصف فقط من استخدامهم القوات البريطانية-الهندية للاستيلاء عليه من العثمانيين. وقد أقام الإيطاليون في ليبيا والفرنسيون في سورية وقتاً أطول قليلاً، لكنهم كشفوا عن النوع نفسه من القسوة الوحشية والافتقار إلى الاهتمام بتطوير السكان المحليين. ولم تترك الكولونيالية الأوروبية في مصر وسورية والعراق خلفها أي مدارس ولا مصانع تقريباً.
إن الفكرة القائلة إن الجيوش الأوروبية التي زحفت إلى داخل المنطقة قدمت النظام هي فكرة مثيرة للضحك. لقد حرض تواجد هذه القوات قيام ثورة في إثر ثورة. وهي تواريخ ما يزال القوميون المحليون يعتزون بها. كانت هناك ثورة 1918-1920 في مصر، والتي أجبرت البريطانيين على الخروج من البلد في العام 1922. وكانت هناك ثورة 1920 في العراق، التي جعلت لندن تتخلى عن أي فكرة لمحاولة إدارة ذلك البلد مباشرة كما فعلت في الهند. وكانت هناك ثورة 1936-1939 في فلسطين وسورية. كما ترتب على الفرنسيين التخلي عن سورية ولبنان بعض أن أضعفهم وقوعهم هم أنفسهم -بما ينطوي عليه ذلك من المفارقة- تحت استعمار الألمان.
هناك أربعة أسباب كبيرة جعلت الإمبريالية الاقتصادية الأوروبية تموت بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية، والتي لن تجعلها تعود أيضاً. أولاً، منح النازيون واليابانيون للإمبريالية سمعة سيئة فيما يتعلق بغزو وإدارة أراضي الآخرين. وبعد الحرب، عندما حاول الهولنديون إعادة ترسيخ استعمارهم الإمبريالي في إندونيسيا، سألهم الإندونيسيون: لماذا كان من المريع جداً أن تستولي ألمانيا على هولندا، لكنه لا بأس بأن تهيمن لاهاي على إندونيسيا؟ وكانت تلك حجة لا يمكن دحضها.
ثانياً، ازداد الجنوب العالمي حركية وتعبئة على نحو متزايد. أصبح أكثر حضرية، وأكثر تعليماً، وأفضل تسليحاً وأكثر تنظيماً بالأحزاب السياسية مما كان عليه حاله في القرن التاسع عشر. وكان الاستعمار الأوروبي قد نجح إلى حد ما عندما كان الناس يعيشون في قرى يقطنها 300 نسمة، وكانوا غير متعلمين وغير متصلين إلى حد كبير ببقية المنطقة. وبعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت الأحزاب السياسية المناهضة للإمبريالية، مثل الحزب الشيوعي والبعث، تحظى بشعبية كبيرة في العراق وسورية واليمن. وجعلت التعبئة الاجتماعية والسياسية لهؤلاء السكان من المستحيل على المستعمرين حكمهم. ويتطلب الحكم الإمبريالي وجود سكان إما عاجزين، أو منقادين. ولم يكن الشرق أوسطيين من أي من النوعين بحلول الخمسينيات.
ثالثاً، قاد صعود القومية في الجنوب الكوني السكان المحليين إلى تأكيد ملكيتهم لمواردهم الوطنية. وقد استعادت مصر قناة السويس في العام 1956، رغم المقاومة الهائلة من بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل. وبعد انقلابه على الملكية التي نصبتها بريطانيا في العراق في العام 1958، تعهد عبد الكريم قاسم بتأميم النفط العراقي. وأفضت مطالبة إيران بقسمة 50/50 لأرباح النفط مع شركة النفط الأنجلو-إيرانية (الآن “بريتيش بتروليوم”) إلى الانقلاب الذي دبرته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في إيران في العام 1953، لكن تلك العملية تمكنت فقط من تبطئ خطو التاريخ، وليس وقفه. ففي العام 1979، قام الإيرانيون الغاضبون بإلقاء الولايات المتحدة خارج بلدهم. وفي معظم الحالات، أصبحت محاولات صنع الإمبريالية الجديدة neo-imperialism تتحطم وتحترق. وفي السبعينيات، قامت معظم دول البترول في الشرق الأوسط بتأميم هذا المورد.
رابعاً، أصبحت الجماهير الأوروبية غير راغبة في تحمل كلفة الإمبراطورية، خاصة بعد “الركود العظيم” والدمار الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية. ولأن المجتمعات الأفريقية والآسيوية أصبحت معبأة وأكثر حركية بالتحديد، أصبحت كلفة الإبقاء على هذه المجتمعات خاضعة ومتخلفة تزداد باطراد.
كل هذه الأسباب الأربعة لنهاية الإمبراطورية ما تزال سارية اليوم. وفي واقع الأمر، أصبح سكان الجنوب العالمي الآن أكثر تعبئة بكثير مما كانوا عليه في الخمسينيات، وأصبحت المتفجرات القوية والأسلحة متوافرة على نطاق أوسع. وبعد انهيار العام 2008، أصبح صبر الجماهير المعاصرة على الاستنزاف الاقتصادي الذي تسببه المغامرات الإمبريالية محدوداً.
إن منطقة الشرق الأوسط لا تواجه انهيار الدولة الآن بسبب عدم وجود الإمبراطورية. لقد كانت الإمبراطوريات الأوروبية نفسها هي التي رسمت خطوطاً في الصحراء ووضعت سياسات تفضل الأقليات والتقسيم والإقصاء، والتي ما تزال تطارد المنطقة. وقد دفع جفاف طويل الأمد ملاييناً من المزارعين بعيداً عن أراضيهم في هذه المنطقة، في وضع تفاقم بسبب الجفاف والحرارة الزائدة في الغلاف الجوي الناجمة عن تغير المناخ. وتعاني الرقة في سورية أو تعز في اليمن من نقصد شديد في المياه، وهو سبب يكمن خلف بعض الاضطرابات الاجتماعية. كما أن انهيار الدولة الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتدهوره إلى حكم القلة تحت تأثير سياسات الليبرالية الجديدة (أصولية السوق)، المدفوعة من الغرب، زاد من زعزعة استقرار هذه المجتمعات. وأنتج انتفاخ شريحة الشباب، مع وجود مئات الآلاف من العمال الجدد الذين يحاولون دخول سوق العمل سنوياً، تحديات لهذه الحكومات، والتي لم تتمكن من التغلب عليها. وعلى أي حال، تشهد مناطق العالم فعلاً قدراً كبيراً من الاضطراب في التاريخ الحديث. كان هناك وقت اشتعل فيه جنوب شرق آسيا، ولم يعد إلى المسار الصحيح من الثمانينيات فصاعداً عن طريق إعادة تنصيب استعمار غربي جديد. وفي الحقيقة، ساهمت حرب الولايات المتحدة في فيتنام في زعزعة استقرار لاوس وكمبوديا.
لا تبدو محاولات الإمبريالية الجديدة شبيهة بالغزو البريطاني للبنغال في العام 1757، والذي كان غير مكلف نسبياً، ووضع جنوداً مدربين مع تكنولوجيا عسكرية متقدمة في مقابل خيالة غير منضبطين يطلقون النار كما يحلو لهم. إن الإمبرياليين الجدد يواجهون سكاناً معبئين، متعلمين، منظمين ومتصلين، وعلى استعداد تام لتشكيل خلايا مؤهلة لخوض حرب عصابات وتفجيرها. كما أن الولايات المتحدة لم تغادر العراق طوعاً. لقد تم إجبارها على الخروج بسبب المعارضة الشديدة، سواء بحرب العصابات أو بالسياسية على حد سواء (حيث رفض البرلمان العراقي السماح ببقاء قوات أميركية في البلاد بعد العام 2011). ويبدو أن كابلان ورفاقه الروحيين لم يفهموا أبداً كم هو المحتل مكروه، وكم هم المحتلون ضعيفون في العالم الحديث. لقد ذهبت الحروب الأهلية ومعارك الميليشيات بين السنة والشيعة، والتي أطلقها الاحتلال الأميركي، من قوة إلى قوة، وهم يواجهون بعضهم البعض الآن. ولم يسيطر الجيش الأميركي أبداً في العراق على أكثر من مجرد الأرض التي وقف عليها. والفكرة التي تقول بأن المزيد من الإمبريالية الغربية، التي ألقت بالعراق في جحيم الفوضى، يمكن أن تجلب النظام الآن بأعجوبة، إنما هي مطلق المفارقة التاريخية. إن البلد الذي يبلي حسناً أكثر ما يكون في الشرق الأوسط في الوقت الراهن هو تركيا، التي لم يتم استعمارها أبداً على الإطلاق.
http://www.thenation.com/blog/208161/whats-wrong-robert-kaplans-nostalgia-empire#