احتفل زعماء العالم، في العاصمة الفرنسية باريس أمس، بالذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى.
وكي نفهم الخسائر الفظيعة التي تكبدتها البشرية في تلك الحرب نكتفي بذكر ضحايا اليوم الأخير منها، فقبل أن تدق الساعة الحادية عشرة من صباح الحادي عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1918، ومع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، سقط أكثر من 11 ألف جندي بين قتيل وجريح، بينهم 4000 ألماني، و3500 أمريكي، و2400 بريطاني، 1170 فرنسيا (قُتل آخرهم قبل عشر دقائق من إعلان الاتفاق).
الحرب التي انتهت بتوقيع برلين وثيفة إعلان هزيمتها في قطار فرنسي متوقف في منطقة كومبين كانت مجحفة بحق ألمانيا وشعبها وهو أمر ساهم في صعود النازيين إلى الحكم عام 1933 ليحاولوا الانتقام وتعديل موازين القوى القارّية والعالمية، ما أدى لهزيمتها مجددا في حرب أكثر وحشية وإجراما وضحايا، أما في بلادنا فكان من نتائجها انحسار حكم السلطنة العثمانية (وانتهاؤها عمليا) عن المنطقة العربية ووقوع بلدان المشرق العربيّ تحت الاحتلالين البريطاني والفرنسي ونشوء تسوية بينهما عام 1922 (المشهورة باسم اتفاقية سايكس بيكو) أدّت بالنتيجة لتشكل ما يسمّى «الشرق الأوسط» الحالي وتجهيز المشهد السياسي لظهور دولة إسرائيل، وهو ما سمّاه كاتب أمريكي في كتاب شهير صدر عام 1989 «سلام لإنهاء كل سلام»!
لقد تصرّف الساسة الفرنسيون والبريطانيون آنذاك كما كانت تتصرّف الإمبراطوريات القديمة من حيث عدم إقامتها اعتبارا ولا وزنا للشعوب المحكومة فدبّجوا حدودا وأنشأوا دولا لم تكن موجودة واصطفوا نخبا حاكمة وأعطوا وعداً بـ«وطن لليهود» في فلسطين واستنزفوا اقتصادات البلدان التي حكموها وتلاعبوا بسياساتها وحكوماتها، لكنّهم أيضاً قدّموا نظما سياسية جديدة ووضعوا شعوب المنطقة أمام تحديّات سياسية وفكرية كبيرة فنشأت البرلمانات والصحف والأحزاب السياسية والمحاكم الحديثة والجامعات واعتبرت بعض النخب أن الطريق صار مفتوحا لوحدة العرب وتأسيس دولة كبرى تنافس غيرها في مضمار الحداثة والتقدم.
كان عرب المشرق على هامش الحرب العالمية الأولى، ولم يقاوموا الوظيفة الأساسية التي أناطتها القوى الأجنبية بهم وهي المساهمة في إسقاط الدولة العثمانية، وتم سحق حراكاتهم اللاحقة حين حاولوا مقاومة الاحتلال (ثورة 1919 في مصر، وثورة 1920 في العراق، والثورة السورية عام 1925)، أو تحرير بلدانهم من الأجنبيّ. وعلى عكس الأتراك الذين استطاعوا مواجهة مخطط تقسيم بلادهم، فإن نخب العرب لم تستطع مواجهة التحدّي الحضاريّ أو السياسي والعسكري الأوروبي، وأن كثيرا من النخب المستتبعة والمدجنة للغرب هي التي حكمت البلدان العربية لاحقا، ومن المثير للتفكّر حقّاً أن الغرب ساهم في إجهاض تجربة الديمقراطية في بلداننا، وأن النخب العربية المتغرّبة أيضا لم تحاول مأسسة الديمقراطية (وهي أهم منظومات الغرب السياسية) أو الدفاع عنها بقوة بل إنها ساهمت، بفشلها وتخاذلها، في استدعاء الانقلابات العسكرية الدكتاتورية، أو ناصرت نظم الاستبداد التقليدية ومشت في ركابها.
بعد الحربين الأولى والثانية استتبّ رأي يعتبر أن المنظومة الغربية برمّتها دخلت طورا جعل تلك الحروب من الماضي البعيد، وساهم سقوط الاتحاد السوفييتي، عام 1991، في إشاعة هذا الشعور العامّ بانتصار الحضارة الغربية ونظمها، ولكنّ هذا الشعور ما لبث أن بدأ يترنّح، وكان الغريب أن جرس الإنذار جاء من ذاك «الشرق الأوسط» الذي أنشأته الحرب العالمية الأولى (والحيز المهمل والموضوع خارج التاريخ) على شكل هجوم برجي التجارة العالميين عام 2001، ثم انتقام أمريكا باجتياح أفغانستان والعراق، وصولاً إلى الموجة الجديدة التي نشهدها من صعود «الوطنيّات» المتطرّفة والأشكال المستجدة من الفاشيّة ليس في ألمانيا وأوروبا فحسب ولكن في أمريكا الشمالية والجنوبية وحتى في الهند والصين، أكثر بلدين سكانا في العالم.
وهذا ما يدفعنا للسؤال: هل انتهت الحرب العالمية الأولى حقّا؟