فيما تواصل السلطوية الحاكمة في مصر إخضاع المواطن لقبضتها الأمنية وتحكم سيطرتها على المجتمع وتعيد صياغة الذاكرة الجماعية للناس بالمرادفة بين طلب التغيير الديمقراطي في 2011 وبين الفوضى لكيلا يعود أحد إلى الفضاء العام إن محتجا على الأوضاع القائمة أو داعيا إلى الإصلاح، يواجه ما تبقى من فعاليات معارضة ومنظمات مجتمع مدني مستقلة تحديات جمة أبرزها تحديد المساحات والآليات التي يمكن من خلالها النفاذ للاشتباك مع السلطوية إن بهدف الحد من الفساد وتحفيز الإصلاح التدريجي أو لاستعادة توازن مفقود بين المؤسسات العسكرية والأمنية وبين المؤسسات المدنية أو لتوثيق وكشف انتهاكات حقوق الإنسان أو للمنافسة الانتخابية بهدف تقديم بديل لا يألب كل مجموعات المتنفذين والمالكين التي لم تثق أبدا في حديث الديمقراطية ولا يخيف الأغلبية التي صار الاستقرار مجددا غايتها النهائية.
فيما خص مسألة الفساد، يمكن لفعاليات المعارضة والمجتمع المدني المستقل الارتكاز إلى تمييز صريح بين صنوف منه يمكن اليوم مواجهتها لحضور إرادة السلطوية الحاكمة كالتعديات على الأراضي ذات الملكية العامة واستغلال المنصب العام للتربح (الفساد الفردي)، وبين ما لا يمكن مواجهته لغياب تلك الإرادة كشبكات المصالح الحاضرة داخل مؤسسات الدولة والحامية لاحتكارات كبرى في القطاعات الاقتصادية والمالية وكالتفاوت الهيكلي في توزيع العوائد المادية وعوائد النفوذ داخل بنية الدولة بين مؤسسات تحابى كالجيش والأمن والقضاء ومؤسسات تهمش كوزارات الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة (الفساد المؤسسي).
ربما أمكن أيضا التفتيش عن سبل تضييق فجوة القوة والنفوذ داخل بنية الدولة المصرية بين المؤسسات العسكرية والأمنية المهيمنة وصاحبة السيطرة على رئاسة الجمهورية ومراكز اتخاذ القرار في السلطة التنفيذية، وبين المؤسسات المدنية المستضعفة على الرغم من إسهامها المحوري في بقاء الدولة واستقرارها كالوزارات الخدمية مثل وزارتي الصحة والتعليم وكالهيئات الرقابية مثل الجهاز المركزي للمحاسبات. فبينما تتواصل هجمة المؤسسات العسكرية والأمنية للاستتباع الكامل للوزارات المدنية ولإخضاع الهيئات الرقابية بغية القضاء على مفاعيل الرقابة الجادة على أعمال الجنرالات بل وتحصينهم بعد التقاعد (قانون الهيئات الرقابية وقانون تحصين كبار قادة القوات المسلحة نموذجا)، يتعين على المدافعين عن الحقوق والحريات وعلى المجتمع المدني المستقل الاشتباك الإيجابي مع وزارات كالصحة والتعليم وتداول مبادراتهما الإصلاحية نقاشا وتنقيحا ودعما كما يتعين عليهم الانتصار لاستقلالية الهيئات الرقابية والسعي لتمكين عناصرها القيادية من غير العسكريين وغير الأمنيين من الاضطلاع بأدوار مؤثرة داخل دولاب السلطوية الحاكمة وفي بنية الدولة.
تعين على المدافعين عن الحقوق والحريات وعلى المجتمع المدني المستقل الاشتباك الإيجابي مع وزارات كالصحة والتعليم وتداول مبادراتهما الإصلاحية نقاشا وتنقيحا ودعما
يمكن كذلك، وهنا مصدر حيوي لتوليد طاقة جماعية تتجه إلى المقاومة السلمية المنظمة والعلنية للسلطوية الحاكمة، الدفع بأولوية مشاركة حركات وأحزاب المعارضة في العمليات الانتخابية على الرغم من طبيعتها غير الديمقراطية الراهنة. فحالة مصر في 2018 لا تختلف كثيرا عن حالات سبقت زمنيا لسيطرة المؤسسات العسكرية والأمنية على الدول والمجتمعات في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا وانتهت إلى تحولات ديمقراطية ناجحة ما أن نزعت قوى المعارضة المجتمعية والسياسية إلى مقاومة السلطويات الحاكمة سلميا عبر المنافسة في كافة المساحات ذات المظهر الديمقراطي التي حضرت كاختيار رؤساء الجمهوريات وتشكيل البرلمانات وفي اتحادات النقابات العمالية والمهنية. في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، نجحت المعارضة في بلدان كالبرازيل والأرجنتين وتشيلي ولاحقا في ماليزيا وإندونيسيا والسنغال وغانا في تحفيز التحول الديمقراطي عبر توظيف كافة الآليات المتاحة للمشاركة السلمية وفي طليعتها العمليات الانتخابية.
تاريخيا وبصورة مقارنة تتجاوز حدود مصر وحدود إقليمنا المنكوب بالاستبداد، لا تجافي الصواب الإشارة إلى أن تداخل المعارضة في العمليات الانتخابية يكسب حركات وأحزاب وقيادات وأفراد المعارضة هذه طاقات تنظيمية وخبرات في العمل الجماهيري بالغة الأهمية ويضع السلطوية في معية مشاهد سياسية تحمل في طياتها بذور الاستعصاء على سيطرة الحكام والسيناريوهات المعدة سلفا من قبل مؤسساتهم العسكرية والأمنية لإدارتها (الاستفتاء الدستوري في تشيلي 1988 نموذجا). وقد تتمخض العمليات الانتخابية عن نتائج غير متوقعة تعيد تعريف معادلات الحكم وتحدث تغيرات كلية أو جزئية في تكوين النخب. ولا يعني التداخل في الانتخابات الاكتفاء بمجرد طرح مرشحين، بل لابد من الربط بين طرح المرشحين وبين صناعة برامج اقتصادية واجتماعية وسياسية بديلة تحفز الناس في مصر على الإنصات مجددا إلى المعارضة وتقلل من خوفهم من حديث الديمقراطية وتضمن عدم تأليب كافة مجموعات المتنفذين والمالكين الملتفة راهنا حول السلطوية الحاكمة البادي على بعض عناصرها التململ والقلق. المطلوب، إذا، هو برامج بديلة يتواصل وجودها في الفضاء العام بعد أن تنتهي العمليات الانتخابية وبمعزل عن نتائجها.