التاريخ يمكن أن يعيد نفسه أو التاريخ لا يعيد نفسه جدل لا يعنينى الآن. ما يعنينى فى هذه اللحظة هو أن كبار القادة السياسيين الذين يحكمون العالم الآن يحتفلون فى هذه اللحظات بذكرى انتهاء أول حرب عظمى فى التاريخ الحديث. هم فى الواقع يتذكرون أيضا، ولعله الأهم فى هذه المناسبة ويجب تنبيههم إن هم نسوا أو تناسوا حقيقة أن هذه الحرب العظمى التى يحتفلون بذكرى انتهائها نشبت لسبب عظيم أيضا، سبب لا يتكرر كثيرا بل هو الأشد ندرة فى سجل الأحداث العظمى المتكررة. هذا السبب هو الصدام الحتمى بين قوة صاعدة نحو قمة القيادة الدولية وقوة لا تزال فى القمة آفلة تكون أو قوية وصامدة. نشبت الحرب العالمية الأولى، أو الحرب العظمى كما جاء اسمها فى سجل التاريخ، لأن بريطانيا شعرت بالتهديد لزعامتها من جانب ألمانيا أو لأن ألمانيا شعرت بأن الفرصة والظروف سانحة لتجرب إزاحة بريطانيا العظمى عن موقعها فى القيادة الدولية.
***
تتزاحم تطورات عديدة تحاول أن تثبت لنا أننا على مشارف مرحلة تاريخية لن تكون أقل أهمية من المرحلة التى سبقت اشتعال الحرب العظمى الأولى. بالتأكيد أنا لا أعنى هنا أننا نقف بالضرورة على أبواب حرب عالمية. إنما أرى سحبا كثيرة بعضها داكن وأكثرها يحمل نوايا غير طيبة تهدد السلام العالمى. كان الأمل لدى كثيرين، وأنا منهم، على امتداد السنوات الست الأخيرة أن تستمر الصين تعمل بوصية الرئيس الراحل دينج تشاو بينج فتصعد بهدوء دون أن تثير الشبهات فى نوايا الصين وتستعجل منافسة هى غير مستعدة لها. كان الأمل كذلك أن تستمر الولايات المتحدة فى سياساتها الهادفة إلى إقامة مصالح مشتركة وأنماط من الاعتماد المتبادل بين الدولتين. لم يتحقق هذا الأمل ولا ذاك.
***
نعيش أجواء حرب. صحيح أنها حرب تجارية ولكنها تظل حالة عداء تمهد ــ إن تركت تتفاقم ــ لخلافات وأخطاء وفى أسوأ الاحتمالات اشتباك مسلح، كما كاد يحدث فعلا عندما اقتربت قبل أيام قطعتان بحريتان أمريكية وصينية فى مياه دولية الواحدة من الأخرى إلى حد الاشتباه فى تهديد مباشر. كثيرون يتوقعون أن تكون منظمة التجارة العالمية أول الضحايا. نعرف أن الرئيس ترامب يكره الاتفاقات التجارية متعددة الأطراف ومن بينها أو فى صدارتها هذه المنظمة لأنها مثل غيرها تضع قيودا على أعضائها ومنها الولايات المتحدة وتخضعها لجهاز تسوية النزاعات. وعلى كل حال هناك فى أمريكا الآن من يقول إنهم أقاموها لتخدم أهدافهم فى الحرب الباردة الناشبة وقتذاك بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة. انتهت الحرب الباردة وأصبحت منظمة التجارة العالمية غير ذات فائدة لأمريكا وبخاصة فى حربها التجارية ضد الصين كمنافس جديد لأمريكا.
***
أشك كثيرا فى أن الحرب التجارية الناشبة الآن يمكن أن تهدأ أو تتوقف فى وقت قريب. راح الظن فى بداية الأمر يتجه نحو احتمال نجاح المفاوضات الجارية بين الطرفين، يعقب هذا النجاح ارتداد الطرفين إلى مواقعهما الأصلية قبل انعقاد المؤتمر الأخير للحزب الشيوعى الصينى وقبل احتلال الرئيس ترامب منصب الرئاسة. خاب الظن. إذ فوجئنا بسلسلة من الأعمال «العدائية» يتبادلها الطرفان. كان الطرف الأمريكى أكثر وضوحا وصراحة وأعتقد أن هدفه كان إثارة الشعور بالكراهية للصين فى نفوس الأمريكيين وهو الأمر الذى أثار الريبة لدى أصدقاء الطرفين وأنصار السلام وبخاصة فى أوروبا. إثارة الكراهية بشكل ممنهج يعنى فى غالب الأمر نية مبيتة تعد العدة لخطوة تالية تعتمد على ما تحقق من كراهية. هذا الموضوع له أصل فى تاريخ كل الحروب وله أصل فى تاريخ التدهور المدروس والمنظم للعلاقات بين أمريكا بخاصة والعالم الإسلامى والعربى. ونتائجه ملموسة ومحسوسة فى اللحظة الراهنة فى مسيرة إقليم الشرق الأوسط وعلاقاته بالغرب.
ما يحدث مع الصين يذكرنا بما حدث معنا وإن كان أكثر وأثقل وزنا. بدأ الرئيس ترامب بنفسه تنفيذ الحلقات الأولى لبث الكراهية خلال حملة ترشيحه للرئاسة. من هناك تلقفت وسائل الإعلام ومراكز البحوث الكرة وتولت تعميق حملة الكراهية فى أرجاء أمريكا تمهيدا لإعلان الحرب التجارية وتبريرا لها. جرى بعد ذلك السحب المتدرج لممثلى المجتمع المدنى الدولى من الصين. فى الوقت نفسه صدرت عن البنتاجون استراتيجية الأمن القومى ثم استراتيجية الدفاع القومى وفى كليهما نصوص صريحة عن التهديد الصينى. من ناحية أخرى اتخذت إجراءات لحماية التكنولوجيا الأمريكية، إجراءات قيدت حرية مراكز علمية وبحثية وشركات كبرى ومئات الألوف من المبعوثين الصينيين والأمريكيين فى الجامعات الأمريكية وأمريكيين عديدين من أصل صينى. ثم كان خطاب نائب الرئيس الأمريكى فى معهد هدسون، الخطاب الذى اعتبره أكثر من معلق صحفى بيان إعلان حرب مؤجلة.
من ناحية ثالثة خرج المسئولون فى وزارة الخارجية وإدارات أخرى إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يحذرون السياسيين فيها من مغبة الانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق لما تتضمنه من مخاطر على مستقبل اقتصاد وسيادة هذه الدول التى سوف تعجز حتما عن سداد فوائد القروض وأقساطها فينتهى بها الأمر إلى تسليم مقدراتها واستقلال إرادتها إلى الصين. قيل إن الحملة نجحت ولكن قيل أيضا إن المسئولين فى تلك الدول كانوا قد انتبهوا هم أنفسهم إلى تكلفة الانضمام للمبادرة. قرأنا وسمعنا عن مفاوضات الانسحاب أو تصحيح شروط الانضمام التى وعد بها الرئيس الباكستانى الجديد خلال حملته الانتخابية ثم تنفيذه الوعد فور توليه المسئولية. نسمع ونقرأ الآن عن تردد لدى القادة العسكريين فى ميانمار ولدى حكومات كينيا وزامبيا وسيريلانكا والمالديف وطاجيكستان، وتابعنا باهتمام كبير موقف الرئيس الجديد للبرازيل من خلال تصريحاته أثناء حملته الانتخابية وسعادته بأن الإعلام البرازيلى وفى بقية القارة الجنوبية يشبهه بالرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
أتابع أيضا التصعيد الجديد فى حملة الإساءة للصين عن عمد أو بالمبالغة من جانب بعض الكنائس الأوروبية. الحملة ليست جديدة إذ تعود إلى سنوات كان تشيانج كاى شيك يحكم الصين ويحارب الشيوعيين واليابانيين وأمراء الحرب ويحاول فى الوقت نفسه منع الكنائس من التدخل فى السياسة لصالح دول غربية. الصين تغيرت وبقى شك السلطة الصينية فى الدين ورجال الدين خالصا لم يصبه التغيير.
خلصت حملة الكراهية إلى رسم صورة للصين تبدو فيها دولة توسعية تهدد أمن دول ومياه جنوب شرق آسيا وتسعى للهيمنة على ثروات دول فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية مستخدمة أساليب كانت تستخدمها دول الاستعمار التقليدى والحديث على حد سواء. تبدو فيها كذلك مستعدة لاحتلال دول شريكة فى مبادرة الحزام والطريق بحجة حماية العمال والاستثمارات الصينية من منظمات إرهابية كتلك التى تعمل من داخل أفغانستان ضد المصالح الصينية فى بلوشستان. بدت فى الصورة أمام دول جنوب شرق آسيا وأستراليا والهند دولة متغطرسة وأمام دول إفريقيا كيان يتصرف بعقلية إمبراطورية ولا يراعى حساسيات الإفريقيين رغم أنه خصص للاستثمار فى بلادهم رقما هائلا، 700 مليار دولار.
***
هذه الصورة سيكون من الصعب على أحد محوها أو تحسينها فى السنوات القليلة القادمة إن دعت الضرورة إلى الاقتراب من الصين سلميا. نحن لا يجب أن نتجاهل حقيقة أن فى أمريكا الآن جيلا جديدا من الدبلوماسيين والعسكريين والباحثين لم يعرف عن الصين جانبها الناعم. لم يعش المرحلة الرومانسية فى علاقة بلاده بالصين. كانت الصين بالنسبة للجيل الأقدم من الأمريكيين دولة بحضارة جذابة وثقافة مشوقة. ولا شك أن كلا من هنرى كيسنجر وريتشارد نيكسون بالإضافة إلى عدد غير قليل من الأدباء والأكاديميين استطاعوا تقديم الصين للشعب الأمريكى بل وللشعوب الغربية عامة فى صورة جلبت للشعب الصينى الإعجاب حتى الانبهار. الصورة الجديدة خشنة وعنيفة. تجدها محشوة بحكايات قسوة وقمع فى هونج كونج وشكاوى رجال أعمال أمريكيين لا يتحركون بحرية واتهامات إعلامية ورسمية أمريكية عن سرقات لأسرار وتكنولوجيات أمريكية عن طريق جواسيس صينية أو آليات نصب واحتيال.
هذه الصورة للصين دفعت معلقين سياسيين لتوجيه نصيحة للمسئولين الأمريكيين بالعودة إلى قراءة أوراق جورج كينان، الدبلوماسى والمفكر الذى نبه إلى التهديد الذى يمثله الوجود السوفييتى لسلامة وأمن الغرب وبخاصة الولايات المتحدة. بفضل هذا الرجل وبفضل الصورة التى رسمها للاتحاد السوفييتى فى حينه فرضت أمريكا الحصار على الإمبراطورية السوفييتية. بفضلهما معا نشبت الحرب الباردة.