«أتمنى أن أستيقظ من النوم ذات صباح فلا أجد غزة على الخريطة».
هكذا كاشف رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق «إسحاق رابين» الرئيس الفرنسى «فرانسوا ميتران» فى اجتماع ضمهما بقصر الإليزيه بمشاعر لم يعد بوسعه أن يخفيها وكوابيس تلاحقه فى النظر إلى مستقبل الدولة العبرية.
كان ذلك مطلع تسعينيات القرن الماضى وأحاديث تسوية القضية الفلسطينية تتسيد كواليس الدبلوماسية الدولية.
لم تكن العبارة الكاشفة، التى نقلها الرئيس الفرنسى مندهشا من رسائلها إلى صديقه القديم الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، تعبيرا مجازيا مبالغا عن هواجس ومخاوف بقدر ما كانت تأسيسا لاستراتيجية كاملة حكمت إدارة إسرائيل للمفاوضات مع الفلسطينيين فى «أوسلو».
مال التصميم الاستراتيجى الإسرائيلى فى مفاوضات «أوسلو» إلى التخلص بأسرع ما هو ممكن من صداع غزة وإحالة مسئوليتها إلى سلطة فلسطينية مقيدة بالتزامات التعاون الأمنى الكامل مع قوات الاحتلال الإسرائيلى.
ولم تكن مصادفة أن يكون عنوان المرحلة الأولى فى اتفاقية «أوسلو»: «غزة وأريحا أولا».
شاع وقتها نقد جوهرى لما انطوت عليه الاتفاقية من ثغرات وتنازلات أخذ عنوانا مضادا: «غزة وأريحا أولا وأخيرا».
على مدى أكثر من ربع قرن هذا ما حدث تقريبا.
لا إسرائيل التزمت بما وقعت عليه ولا نشأت دولة فلسطينية على الأراضى التى احتلت عام (1967)، توسعت المستوطنات حتى كادت تلتهم الجانب الأكبر من الضفة الغربية وضمت القدس بقوة السلاح دون التفات كبير لأية حقوق مشروعة أو أية قرارات دولية، والسلطة نفسها تحولت إلى رهينة تحت حراب الاحتلال.
هبت انتفاضات شعبية وجرت مواجهات فى القدس والضفة الغربية وتقدمت غزة لتفاقم صداعها فى الرأس الإسرائيلى.
ثم نشأت أوضاع جديدة، أسوأها الانشقاق الفلسطينى الفادح بين «فتح» و«حماس» أو الضفة وغزة، وفرض حصار قاس على القطاع الفقير حتى أصبحت الحياة شبه مستحيلة.
جرت ثلاثة حروب مدمرة عليه أعوام (2008) و(2012) و(2014) فضلا عن غارات واعتداءات متكررة تضرب وتدمر وتقتل من حين لآخر دون أن تخضع غزة.
ليس فى وارد أى تفكير إسرائيلى إعادة احتلال غزة، فالثمن باهظ وغير محتمل، كما أنه ليست هناك مطامع توراتية، أو إغواءات ما لاحتلال قطاع فقير فى موارده الطبيعية ومكتظ بالسكان والسلاح.
ما تريده إسرائيل ـ بالضبط ـ من عملياتها العسكرية المتواصلة ضد غزة وأهلها تقليل احتمالات نمو المقاومة المسلحة واتصال أدوارها بالضفة الغربية لفصم وحدة الشعب والقضية.
هذا هو التفسير الأقرب إلى الحقيقة لدوافع العملية الاستخباراتية، التى استدعت تداعياتها أوسع اشتباك بين الجيش الإسرائيلى وجماعات المقاومة منذ عام (2014).
كان فشل العملية صدمة إسرائيلية مؤكدة.
وقعت قوة الكوماندوز الخاصة التى تسللت إلى خان يونس فى كمين المقاومة، قتل قائدها وأصيب ضابط آخر بجروح خطيرة، وكادت أن تقع فى الأسر لولا التعبئة العامة العسكرية والاستخباراتية لإنقاذها من ذلك المصير تحت الإشراف المباشر لرئيس الأركان الإسرائيلى.
ما حدث تلك الليلة بدلالاته ومستوى الشجاعة التى أبداها الفلسطينيون فى معركة تفتقد للتكافؤ العسكرى تعبير جديد عن صداع غزة فى رأس يتصور أن بوسعه فعل ما يشاء، يخترق ويستكشف ما يريد استكشافه، يقتل ويعتقل، دون أن يأبه بمسار التهدئة الذى يفترض أن يلزمه بالامتناع عن أية تصرفات استفزازية بالسلاح.
مثل هذه العمليات الإسرائيلية ليست جديدة، ولا يتصور أن تمتنع عنها فى ظل أية هدنة طويلة المدى، إذ ترى أن من حقها فعل ما تشاء باسم أمنها دون أن يخطر ببالها أن هناك نحو مليونى فلسطينى يطلبون المعاملة بالمثل ـ تهدئة مقابل تهدئة وليست تهدئة من طرف واحد.
كانت تلك رسالة أولى.
كما كانت هناك رسالة ثانية من القطاع المحاصر، الذى استهدفته الصواريخ والطائرات الإسرائيلية تقتيلا وهدما وترويعا لمواطنيه، أن بوسعه أن يرد ويوجع ويدفع نحو (250) ألف إسرائيلى إلى الملاجئ وإصابة جنوب الدولة العبرية بالذعر والشلل ويجبر المعتدى فى نهاية المطاف على قبول الوساطة المصرية لوقف تبادل النيران والعودة إلى مسار التهدئة الذى يصعب التعويل على إمكانية ديمومته.
إسرائيل نفسها أعلنت فى لحظة قبولها وقف إطلاق النار أنها ستواصل العمليات العسكرية إذا اقتضت الضرورة.
ما الضرورة التى تدعو لخرق التهدئة؟
لا إجابة واحدة تتجاوز العبارات الفضفاضة عن الأمن الإسرائيلى، كأنه من حق طرف واحد أن يخرق التهدئة بدواع غامضة وينزع عن الطرف الآخر أية حقوق مماثلة، أو غير مماثلة.
كالعادة تكفلت الإدارة الأمريكية بتوفير الحماية لآلة الحرب الإسرائيلية فى مجلس الأمن الدولى، وبدت صواريخ «حماس» متهما وحيدا، كأنه لم يسقط ويُروع ضحايا فلسطينيون بالعنف الإسرائيلى المفرط.
وكالعادة تبدى العجز العربى مأساويا كأن صداع غزة قد أصاب قصور حكمه حتى تمنت بدورها ألا تجدها على الخريطة، أو أن تختفى القضية الفلسطينية كلها من الوجود.
كانت الهرولة العربية للتطبيع داعيا جوهريا لما أسماه المندوب الإسرائيلى فى مجلس الأمن بـ«عدم أخلاقية» الدول التى تتحدث عن عدم تكافؤ العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
لم يكن ذلك النقد الهين مناسبا لإسرائيل، كأن التماهى مع الاحتلال وإدانة الضحايا من مقومات الأخلاق حسب أحدث التعريفات الإسرائيلية.
رغم عجرفة القوة فإنه لا يخفى مدى هشاشتها وعدم ثقتها فى مستقبلها.
تكفى الإشارة إلى استهداف «فضائية الأقصى» بقصف مكثف أزال مبناها وما حولها.
هذه علامة ضعف لا قوة، فالفضائية محدودة فى إمكانياتها ومستويات انتشارها، كأن إسرائيل لا تحتمل صوتا يناهض سياساتها.
إنه انفلات أعصاب وسياسات لا تعرف وسيلة ما للتخلص من صداع غزة المزمن غير الإفراط فى استخدام القوة.
وإنه سلام القوة ــ بتعبير الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» ــ أو «صفقة القرن» بتعبير آخر.
بأية قراءة موضوعية مما تسرب عنها فإن غزة محورها الرئيسى.
لا مجال لأى تفاوض فى مستوطنات الضفة الغربية والقدس واللاجئين، والمبادرة العربية التى تقضى بالتطبيع الشامل مقابل الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة منذ عام (1967) ماتت إكلينيكيا.
فصم غزة عن الضفة الغربية هدف جوهرى للخطة المزمعة.
ما هو قيد التخطيط ومحاولة التنفيذ نزع الطابع التحررى الوطنى عن غزة وتحويلها إلى محض قضية إنسانية يخفف من وطأتها تحسين مستويات المعيشة والخدمات كالكهرباء والوقود وإنشاء ممر مائى مع قبرص للانتقال من غزة وإليها تحت الإشراف الكامل للأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
بصورة أو أخرى تدخل العملية الاستخباراتية الفاشلة وما ترتب عليها من مواجهات عسكرية فى سياق «صفقة القرن».
فى مشهد سريالى واحد يتجاور العنف والحصار والتجويع والضغط بوقف الحصة الأمريكية فى «الاونروا» وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين مع التلويح بمشروعات وصفقات ووعود تحسن مستوى الحياة مقابل التخلى عن أية حقوق مشروعة.
هذا النوع من التفكير أقرب إلى الهذيان ومصيره الفشل المؤكد.