وسط الأمطار الغزيرة وتحت المظلات السوداء الكبيرة، شارك أكثر من ثمانين قائدا ومسئولا دوليا فى مسيرة حزينة فى شارع الشانزليزيه، وسط باريس، لإحياء ذكرى مرور مائة عام على اتفاقية الهدنة التى أنهت الحرب العالمية الأولى التى راح ضحيتها 16 مليون شخص.
التجمع الدولى الكبير كان هدفه التعبير عن «وحدة العالم» لمنع أى حروب كونية مماثلة تودى بحياة هذا العدد الهائل من الضحايا، و»تجنب أشباح الماضي» و»التعلم من درس التاريخ».
لكن المفارقة أنه لم يكشف تجمع دولى فى الآونة الأخيرة، بما فى ذلك القمة المتوترة لحلف شمال الأطلطنى (ناتو) فى يوليو الماضى التى شهدت خلافات أمريكية -أوروبية عميقة، عن هذا الكم من الانقسامات والتباينات بين القوى الكبرى فى العالم أكثر من احتفال مئوية الحرب العالمية الأولى هذا الأسبوع.
وحتى قبل أن يحط الرئيس الأمريكى دونالد ترامب رحاله فى فرنسا، تراشق ترامب مع الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون حول تصريحات ماكرون الخاصة بتشكيل جيش أوروبى موحد يحمى الأوروبيين من روسيا والصين وأمريكا أيضا، وهى التصريحات التى رد عليها ترامب بتغريدة على «توتير» يصف فيها الدعوة الفرنسية بـ «مهينة جدا».
وخلال إقامته لمدة 48 ساعة فى فرنسا، لم يظهر ترامب أى علامة على أن مزاجه تحسن بأى درجة. فقد جاء فى موكب فردي، متأخرا على مسيرة للرؤساء والملوك والمسئولين تحت المطر إلى «قوس النصر» تمهيدا لاحتفال استمر نحو الساعتين،وجلس ممتعضا لم تظهر على وجهه أى ابتسامة إلا عندما ظهر الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، الذى جاء للاحتفال متأخرا أكثر حتى من ترامب نفسه.
وخلال الغداء الذى تلى الاحتفال تحت «قوس النصر» لم يتمكن ترامب من إجراء أى حوار مع بوتين، فقد تعمد مسئولو البروتوكول الفرنسيون، بتوجيهات من الرئاسة الفرنسية، أن يكون مقعد ترامب على مائدة الغداء بعيدا عن مقعد بوتين، وتم إجلاس ترامب بين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، وهما مؤسستان لم يظهر ترامب أى حرص عليهما وكال لهما الاتهامات المرة تلو الأخري.
وقبل ذلك بيوم ألغى الرئيس الأمريكى زيارة، قام بها من قبله كل الرؤساء الأمريكيين بدءا من وودورد ويلسون إلى باراك أوباما، إلى مقبرة «آيسن مارن» الأمريكية، على بعد خمسين ميلا خارج باريس، والمدفون فيها آلاف الجنود الأمريكيين، بحجة الأمطار ما أثار استياء وغضبا فى أمريكا وأوروبا على حد السواء. لم يقتصر الأمر على تأخر ترامب وعدم مشاركته فى مسيرة الزعماء فى الشانزليه إلى «قوس النصر»، ففى اليوم، نفسه الأحد، وبدلا من أن يحضر «منتدى السلام» فى باريس برعاية ماكرون، توجه ترامب لزيارة مقبرة أخرى للجنود الأمريكيين حيث ألقى كلمة موجزة لم تلفت اهتمام أحد فى أوروبا قبل أن يغادر مباشرة إلى أمريكا.
أوروبا لا تدرى بالضبط كيف تتعامل مع ترامب. وهناك مسافة تنمو بشكل مضطرد بين حلفاء الماضي. فالرئيس الأمريكى بخطابه القومى المنغلق الحمائى المعادى للأجانب والهجرة، يقف على النقيض من المؤسسات التى ولدت من رحم الحرب العالمية الأولى والثانية، والتى تحاول أوروبا أن تحميها، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي، ومنظمة التجارة العالمية، والأمم المتحدة، واتفاقيات منع الانتشار النووي. لكن المزاج العام فى أوروبا عكسه ماكرون وهو أن «أوروبا يجب أن تحمى نفسها من عودة أشباح الماضي»، فهى القارة التى دفعت الثمن الأفدح خلال الحربين العالميتين.
وعمليا كان هناك نهج أوروبى جديد ظهر خلال احتفالات باريس.فلم تعد أوروبا ترضى باحتواء نزوات ترامب وتصريحاته الصادمة، كما فعلت خلال الـ18 شهرا الأولى من ولايته. وقد أظهر القادة الأوروبيون، وعلى رأسهم ماكرون، أنهم مستعدون لـ»تطويق» و»تهميش» ترامب والرد عليه إذا لزم الأمر،وحرمانه من الاهتمام الذى يتوق إليه.
وبينما كان ترامب فى طريقه لواشنطن، كان ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يحذران فى «منتدى باريس»، الذى يهدف إلى تعزيز العمل الدولى الجماعي، من مخاطر الانغلاق والقومية على الأمن العالمي. وتساءل ماكرون فى كلمته:»هل سيكون اليوم رمزا للسلام الدائم أم اللحظة الأخيرة للوحدة قبل أن يقع العالم فى المزيد من الفوضي؟»، موضحا:»يعتمد الأمر علينا فقط». فيما حذرت ميركل: «إذا لم تكن العزلة هى الحل قبل مائة عام، فكيف يمكن أن تكون اليوم؟».
وفى خطابه تحت «قوس النصر» تذكر ماكرون كيف أنه مع الحرب العالمية الأولى «أقدمت أوروبا على الانتحار»، محذرا من «أن أشباح الماضى تتصاعد من جديد وكان التاريخ يهدد بتكرار نفسه، ويهدد تاريخ أوروبا فى السلام».
ثم شجب ماكرون «أنانية الدول التى لا تنظر إلا إلى مصالحها الخاصة». وقال إن «الوطنية هى النقيض التام للقومية… القومية هى خيانة للوطنية. فعندما نقول: مصالحنا أولا والآخرين غير مهمين، نمحو ما هو أثمن لأى أمة وما يجعلها حية…. وهو قيمها الأخلاقية».
هذه الكلمات كان من المستحيل سماعها بدون أن يرد إلى الذهن فورا ان ترامب هو المعنى من ورائها. وقبل ذلك وفى مقابلة مع محطة «سى إن إن» الأمريكية، المحطة التى يكن لها ترامب كراهية عميقة، قال ماكرون إن أوروبا بحاجة إلى جيش أوروبى موحد، لأنه لم يعد بإمكانها الاعتماد على الولايات المتحدة كشريك. كما تحدث ماكرون عن الحاجة إلى تعزيز وضع اليورو كعملة مرجعية عالمية، ليس كتحد للدولار الأمريكى ولكن كبديل لأغراض استقرار الاقتصاد الدولى على حد تعبيره. ودعا إلى مزيد من التضامن بين دول الاتحاد الأوروبى أمام تنامى التيارات الشعبوية اليمينية. عزلة ترامب على المسرح الدولى عززها اختيار رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى زيارة باريس ولقاء ماكرون قبل يوم من الاحتفالات الرسمية الدولية، وذلك لحضور احتفالات مماثلة فى لندن يوم الأحد بمشاركة الملكة اليزابيث. وبغياب تيريزا ماي، لم يجد ترامب من يعطيه أذانا صاغية، كما تفعل رئيسة الوزراء البريطانية أحيانا بسبب احتياج بريطانيا لأمريكا بعد البريكست.
وبالنسبة لماى كان عدم حضورها الاحتفالات الجماعية يوم الأحد فى باريس «ترتيب موفق ومناسب» بحسب تعبير دبلوماسى غربى تحدث لـ«الأهرام»، موضحا: «بعدم مشاركتها فى تجمع باريس لم تكن ماى مضطرة للتقرب من ترامب وإغضاب الأوربيين. وبكل صدق لندن اليوم تحتاج قادة اوروبا أكثر كثيرا مما تحتاج إدارة ترامب. وماى تدرك هذا».
فبريطانيا، وهى أحد الأضلاع الثلاثة للتحالف الذى انتصر فى الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى جانب فرنسا وأمريكا، تجد نفسها اليوم «معزولة» أيضا على غرار عزلة ترامب وعلاقاتها مع حلفاء الماضى القريب تتغير بشكل جذري. لكن ماى لديها ميزة ليست لدى ترامب، وهى أنها ليست مكروهة.
فالمناخ العام فى أوروبا معاد للرئيس الأمريكى على نحو متزايد ولا عجب أن يكون العنوان الرئيسى لصحيفة «جورنال دو ديمانش» الفرنسية فى يوم احتفالية «قوس النصر» هو: «لماذا يهددنا ترامب؟».
وهو سؤال مفتوح ومعقد ويشمل طائفة واسعة من القضايا التى تهدد أوروبا والعالم. فالرئيس الأمريكى يأخذ مواقف مختلفة عن أوروبا فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا، وكوريا الشمالية، وإيران، وحرية التجارة العالمية، واتفاقية باريس للمناخ، ودور الأمم المتحدة. وكانت آخر قراراته السياسية قبل التوجه إلى أوروبا هذا الأسبوع هو إعلانه من جانب واحد الانسحاب من معاهدة وقف انتشار الأسلحة النووية متوسطة المدى مع روسيا، التى تمنع تطوير القاذفات التى يتراوح مداها بين 500 و 1000 كيلومتر. وبرغم أن الانسحاب يبدو موجها ضد روسيا، إلا أنه فى حقيقة الأمر «ضربة» ضد الأمن الأوروبي، فالمعاهدة تعمل فى المقام الأول على حماية أوروبا من الصواريخ النووية الروسية متوسطة المدي.
لغة الجسد تكشف كل شيء.
ترامب لا يريد أن يكون فى أوروبا. هو لا يشعر بالارتياح هناك، ويشعر انه مصدر سخرية وأن الأوروبيين لا يحاولون الآن حتى إخفاء الامتعاض منه.
وفى الداخل الأمريكي، حاول مسئولون فى الإدارة ونواب جمهوريون فى الكونجرس الأمريكى التقليل من الآثار الكارثية لـ48 ساعة التى قضاها ترامب فى فرنسا. وقال السيناتور الجمهورى البارز ليندساى جرهام: «دائما ما كانت علاقات الرؤساء الجمهوريين مع أوروبا معقدة». لكن القضية أخطر من هذا. فواقع الحال أن ترامب همش دورأمريكا على المسرح الدولي. وفى حالة «فجوة القيادة»، هناك الكثير من الراغبين فى ملء الفراغ.
وماكرون لم يدخر وسعا لتأكيد أن أوروبا بقيادته (فى ضوء تعثر ميركل فى ألمانيا وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) قادرة على ملء فراغ القيادة العالمية. هذه رسالة أوصلها ماكرون لترامب بكل الطرق الممكنة خلال هذا الأسبوع. ولا عجب أن ينعكس ذلك فى مزاج ترامب السيئ. فهو يحتاج العالم أكثر من أى وقت مضي. فخسارته لمجلس النواب الاسبوع الماضى تعنى أن قدرته على تطبيق أجندته للقضايا الداخلية خلال العامين المقبلين ستتعثر كثيرا. ولتحسين فرص إعادة انتخابه، سيحتاج ترامب إلى أى اختراقات على المسرح الدولي، وسيحتاج بالتالى إلى علاقات أوروبية ودولية أفضل وهذا مراد غير متاح اليوم.