اشتعلت «حرب النبيذ» بين ترامب وماكرون… الرئيس الأميركي يملك مصنعاً في فيرجينيا، ويعتبر طريقة باريس في تجارة النبيذ «مجحفة» في حق ما ينتجه. وعلى أهمية هذه المسألة، فإن الإهانات التي تبادلها الرئيسان تتعداها إلى خلافات قديمة متجددة على الموقف الأميركي من الاتحاد الأوروبي. فترامب يدعم أي محاولة لتفكيك هذا التحالف الذي يشكل خطراً على زعامة الولايات المتحدة للغرب، خصوصاً أن باريس وبرلين تسعيان إلى شيء من الاستقلالية عن سياسات واشنطن، كما تسعيان إلى تأسيس جيش أوروبي موحد للدفاع عن القارة، يأخذ مكان الحلف «الأطلسي» الذي تقوده أميركا وتسخّره لخدمة مصالحها، تاركة الفتات لأعضائه الآخرين.
وتجلى الخلاف بين الجانبين أيضاً على الموقف من الاتفاق النووي الإيراني، فأوروبا تحاول المحافظة عليه وتعتبر إلغاءه وصفة لمزيدٍ من الفوضى في الشرق الأوسط، فضلاً عن أنها تطمع في حصول شركاتها على امتيازات في هذا البلد النفطي، فيما يضاعف ترامب العقوبات على طهران ويهدد بمعاقبة كل من يخرقها.
الواقع أن موقف الدول الأوروبية من التبعية للولايات المتحدة ليس واحداً، وبعضها يحاول التمرد بين الفترة والأخرى، ولكن عندما تتخذ واشنطن قراراً ما من قضايا الشرق الأوسط، نجد باريس ولندن وبرلين، فضلاً عن باقي العواصم، تزاود عليها في التطرف وتبدأ تطبيق ما قرره البيت الأبيض، طامعة باستعادة نفوذها في المنطقة، وبتحقيق بعض الربح من الحصة الأميركية. وإذا كانت ألمانيا، بحكم تاريخها وهزيمتها في الحربين العالميتين مكرهة على إطاعة الرؤساء الأميركيين في كل ما يقررونه، جمهوريين كانوا أو ديموقراطيين، فإن إنكلترا منذ استقلال مستعمراتها، تعتبر «أولادها عبر المحيط» جزءاً منها، على ما كانت تقول مارغريت ثاتشر، وتتقدمها في أحيان كثيرة عارضة خدماتها، كما حصل في الحرب على العراق، أو في سورية، وتحاول كذلك التماهي مع السياسات العدوانية للإمبراطورية الوحيدة الباقية في العالم، وتتصرف كأنها هي التي ترسم هذه السياسات.
فرنسا هي الوحيدة بين الدول الأوروبية التي تتذكر، وتتوهم أحياناً، أن لديها نفوذاً في الشرق الأوسط تستطيع المحافظة عليه من دون المرور بواشنطن. حدث ذلك في عهد الرئيس شارل ديغول الذي اتخذ مواقف ضد الإدارة الأميركية، وطلب من قواتها مغادرة بلاده بعد الحرب العالمية الثانية، ثم انسحب من الحلف الأطلسي ليعيد بناء جيشه من جديد، كما اتخذ مواقف مناهضة لها في الشرق الأوسط، وأوقف الدعم العسكري لإسرائيل بعد حرب الـ 67 . وكان، قبل ذلك، أقر بحق الجزائريين بالاستقلال، خلافاً لتوجهات كثيرين من قادة جيوشه.
استمرت باريس في هذه السياسة حتى عهد جاك شيراك الذي اتخذ موقفاً جاداً ضد الحرب الأميركية على العراق. ولم تتغير كثيراً في عهود بومبيدو وجيسكار ديستان والإشتراكي ميتيران، ولا في المراحل الأولى من عهد شيراك الذي عاد ليتواءم مع سياسات واشنطن، بعد اغتيال صديقه رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، فالتقى بوش وعملا معاً على إصدار القرار الدولي 1559 القاضي بانسحاب الجيش السوري من لبنان. ومهدت خطوته هذه الطريق أمام ساركوزي الذي استعاد عضوية فرنسا في الحلف الأطلسي، ثم هولاند الذي كان أميركياً أكثر من الأميركيين.
لم تكن سياسة ديغول قائمة على المُثل الأخلاقية، بل على قراءة واقعية للشرق الأوسط. فالتماهي مع السياسات الأميركية لا يؤمّن له نفوذاً في هذه المنطقة التي تتنافس على ثرواتها وموقعها الجيوسياسي كل القوى الدولية.
ماكرون الذي أتى ممثلاً للنيوليبيرالية لن يستعيد دور ديغول، ودعوته إلى تأسيس جيش أوروبي لا تلقى صدى لدى دول كثيرة، خصوصاً دول شرق القارة الدائرة في الفلك الأميركي، وبعد «بريكزيت» الذي فتح المجال واسعاً للتمرد على بروكسيل.