لماذا لا يمكن للنفط الأميركي أن يصبح القوة المهيمنة في العالم

لماذا لا يمكن للنفط الأميركي أن يصبح القوة المهيمنة في العالم

واشنطن – أذهلت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة العالم بعد أن تحوّلت إلى أكبر منتج للنفط، وأثار نجاحها الاقتصادي في هذا المجال الإعجاب بالنسبة إلى دولة كانت قبل عقد من الزمان تعتمد كليّاً على النفط الخام المستورد.

لكن الغضب الذي نلاحظه من خلال تغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بخصوص أسعار النفط المتذبذبة في الأشهر الأخيرة، والجهود اللاحقة التي بذلتها منظمة “أوبك” لإصلاح السوق من خلال تعديل كمية النفط التي تضخّها، يوضح الإحباط الذي يشعر به الكثيرون في واشنطن عندما يرون ازدهار الولايات المتحدة في مجال الطاقة يفشل في الوفاء بوعود الهيمنة أو الاستقلال.

وقد أعرب ترامب عن خشيته من قيام السعودية بتخفيض إنتاج النفط وقال “آمل ألاّ تقوم السعودية وأوبك بخفض إنتاج النفط.. يجب أن تكون أسعار النفط أقل بكثير على أساس العرض”.

وتكشف مخاوف ترامب أن واشنطن ليست القوة المهيمنة في مجال الطاقة بل إن السعودية هي صاحبة الدور المؤثر. وحقيقة أن فكرة الهيمنة على الطاقة، كما عبّرت عنها الإدارة الأميركية مرارا وتكرارا، هي في جوهرها فكرة مجوفة حسب وصف الكاتب الأميركي كايث جونسون في تقريره بمجلة فورين بوليس الأميركية. بما أن مكانة الولايات المتحدة كأكبر منتج في العالم ليست كافية لحمايتها من ارتفاع الأسعار، أو تحريرها من النزاعات في الشرق الأوسط، أو خنق الخصوم بعقوبات، أو حتى منحها العديد من أدوات السياسة الخارجية الإضافية.

ومن المفارقات هي أنّ ما خلق ثورة الطاقة في الولايات المتحدة –من شركات القطاع الخاص التي تستخدم تكنولوجيات جديدة لاستخراج النفط الخام غير المستغلّ سابقا– يجعل الولايات المتحدة تمارس قوتها في مجال الطاقة بالطريقة التي كانت تمارسها السعودية وروسيا وغيرهما من كبار المنتجين والشركات الحكومية التي هي على استعداد لوضع الجغرافيا السياسية فوق الأرباح.

وقال بروس جونز، رئيس برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكينغز “من المفارقات أن قوة قطاع الطاقة الأميركي، المدفوع من قبل السوق وليس من قبل الحكومة، لا تجعل منها عصا تضرب بها الآخرين”.

واشنطن من مستورد إلى منتج للنفط

لا يمكن لأحد أن ينكر الحجم التاريخي والسريع لتحول واشنطن من مستورد الطاقة إلى المنتج والمصدر الرئيسيين في حد ذاته. حيث تنتج الولايات المتحدة حاليا 11.4 مليون برميل يوميا، مع توقعات بزيادة قد تصل لأكثر من 12 مليون برميل يوميا في العام المقبل. ومنذ بداية ازدهار مجال الطاقة قبل عقد من الزمان، اكتشفت الولايات المتحدة بصورة أساسية موارد في تكساس وتشكيلات داكوتا الشمالية الصخرية.

وقال جيسون بوردوف، مدير مركز سياسة الطاقة العالمي بجامعة كولومبيا “إنه تحوّل مذهل، وله فوائد هائلة اقتصاديّا وإلى حدّ ما جغرافياً”.

وتأتي الفوائد الاقتصادية أكثر وضوحا. فمن خلال إنتاج المزيد من النفط واستيراد كميات أقلّ من الخارج، يساعد ازدهار الطاقة الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة عن طريق الحفاظ على قيمة الدولار في الداخل. ويساعد ذلك وفقاً لدراسة جديدة أجرتها مؤسسة “آي إتش إس ماركيت الاستشارية”، على تقليص العجز التجاري، وهو عائد يصل إلى حوالي 250 مليار دولار مقارنة بالمكان الذي كانت ستصبح فيه الولايات المتحدة دون حدوث هذه الطفرة.

وفي الوقت نفسه، فإن كل البراميل الإضافية من النفط الأميركي المتدفق، حتى لو لم يتم تصديرها فعليًا، تحافظ على تزويد العالم ككل بشكل أفضل، مما يعني أن المفاجآت الجيوسياسية السيئة تسبّب مشاكل أقلّ من حيث ارتفاع الأسعار مما كانت عليه في السنوات الماضية. وقد وصف جونز الإنتاج الأميركي بأنه “ممتص للصدمات” للاقتصاد العالمي.

وهناك بعض المنافع في السياسة الخارجية للهيمنة على مجال الطاقة في الولايات المتحدة، إن لم يكن الكثير من الفوائد التي يبدو أنها لا تزال تتوقعها. فقد حد إنتاج الولايات المتحدة للغاز الطبيعي والصادرات من قدرة روسيا على تقويض الزبائن بين حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، حتى إذا كانت موسكو لا تزال تزيد من حصتها في السوق هناك. وحقيقة أن الولايات المتحدة تنتج، بل وتصدر كميات قياسية من النفط، تعطيها طريقة مختلفة للتعامل مع جيرانها مثل المكسيك، التي كانت تخشى في يوم من الأيام من استحواذ واشنطن على ذهبها الأسود.

لكن لا شيء من ذلك يجعل الولايات المتحدة محصنة ضد صدمات أسعار النفط أو قادرة على فرض إرادتها على دول أخرى، أو حتى قادرة على إضافة العديد من الأسهم إلى موقعها الجيوسياسي. حيث بغض النظر عن كمية النفط التي تنتجها، فإنها لا تزال ضمن سوق نفط عالمي.

وهذا يعني أن أسعار البنزين في الولايات المتحدة يتم تحديدها إلى حد كبير بما يحدث مع ما يقرب من 90 مليون برميل نفط يتم إنتاجها واستهلاكها يوميًا في جميع أنحاء العالم.

ويشير غولدوين، الذي كان يشغل منصب مسؤول كبير في وزارة الطاقة في إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى أن الولايات المتحدة أكثر عرضة من معظم الدول الأخرى للتعرض للانتكاس المفاجئ، بسبب انخفاض الضرائب على الوقود. وهذا ما يجعل سعر النفط الخام، الذي يتحرك إلى الأعلى وإلى الأسفل، هو المحرك الأكبر لأسعار البنزين في الولايات المتحدة منه في دول أخرى.

يعد أكبر إثبات نجاح بالنسبة لصانعي السياسة الذين سحرتهم المستويات القياسية الأميركية لإنتاج النفط هو أن حجم الإنتاج الهائل لا يهم كثيراً. والمثال على ذلك السعودية التي تنتج كميات أقل من النفط كل يوم من الولايات المتحدة، لكنها تلعب دورا أكبر في سوق النفط العالمية مما تلعبه واشنطن أو تفعله في أي وقت. ذلك لأن السعودية تمتلك معظم الطاقة الإنتاجية العالمية، أي ملايين البراميل من النفط التي يمكن تشغيلها بسرعة (أو إيقافها) حسب أوامر الحكومة.

وقال بيرفورد، الذي كان مستشارًا للطاقة في البيت الأبيض في إدارة أوباما، إن القدرة على فتح أو إغلاق حنفية النفط عند الطلب هو ما يكسب القوة الحقيقية. “وهذه القدرة لا تتوفر لدى الولايات المتحدة، ومن غير المحتمل أن تتوفر. بما أن التأثير الحقيقي لا ينبع فقط من الكمية التي تنتجها، ولكن من القدرة على إضافة أو طرح الإمدادات بسرعة، وهذا لا يمكن لأحد أن يفعله مثلما تفعل السعودية”.

وحتى النجاح الذي حققه منهج السياسة الخارجية الخاص بإدارة ترامب، أي إبعاد النفط الإيراني عن السوق عن طريق فرض عقوبات، مع استخدام الإنتاج الأميركي المتنامي للتخفيف من صدمة الأسعار، لا يمكن أن يعد نجاحا. فمن عام 2012 إلى عام 2015، ومرة ​​أخرى هذا العام، سعت الولايات المتحدة للضغط على إيران من خلال الحد من كمية النفط التي يمكنها تصديرها لتمويل أجندة السياسة الخارجية في المنطقة والتي تعول فيها طهران على نشر الفوضى للتوسع في المنطقة. وفي كلتا الحالتين، تم استبدال المليون برميل من النفط الإيراني الذي تم سحبه من السوق بشكل أساسي بمليون برميل أميركي جديد، مما جعل الأسعار معقولة وحد من نكسة السياسية المحلية.

لكن حتى الإنتاج الأميركي الأكبر ليس بديلاً مثالياً للبراميل الإيرانية المفقودة. فالهند، على سبيل المثال، لديها مشكلة في تكرير أي من المنتجات النفطية الأخرى غير الخام الإيراني. وهذا يفسر سبب إجبار إدارة كل من أوباما وترامب على السماح للهند بالاستمرار في استيراد النفط الإيراني، مما يضعف فعالية حملة العقوبات.

وحتى إن وصل إنتاج الولايات المتحدة من النفط إلى مستويات عليا في العام القادم، فمن غير المرجح أن يستمر في النمو أكثر من اللازم. وعند هذه النقطة، سيكون إنتاج النفط الأميركي مجرد جزء من خط الأساس العالمي -وليس حقنة جديدة سنوية من الإمدادات الجديدة- مما يحد من قدرة واشنطن على استخدام العقوبات النفطية كقوة مستقبلية.

وبغض النظر عن كمية النفط التي تضخها الولايات المتحدة، فإن ذلك الغاز وحده لن يحرر الولايات المتحدة من نزاعات منطقة الشرق الأوسط. حيث تهتم الولايات المتحدة منذ عقود بالحفاظ على الاستقرار السعودية ومنطقة الخليج كمصدر للواردات النفطية لنفسها ومن أجل المحافظة أيضاً على الاقتصاد العالمي، أمام تهديدات إيران وميليشياتها في اليمن ولبنان والعراق للأمن القومي لدول الخليج وللمنطقة العربية ككل، ورغم أن واشنطن تستورد كميات أقل بكثير من نفط الخليج الفارسي مقارنة بما كانت تفعله في السابق، لكنها لا تزال مستمرة في دفاعها عن أمن السعودية ودول الخليج، بهدف حفظ الاستقرار في الدول الكبيرة المنتجة للنفط.

وبحسب ما قاله سايمون هندرسون، مدير برنامج معهد واشنطن حول الخليج وسياسة الطاقة “ما يهم الغرب هو رؤية سوق نفط مستقرة. والسعودية، باعتبارها أكبر مصدر للنفط في العالم، حاسمة، وستظل كذلك حتى تصبح السيارات الكهربائية أكثر شيوعًا من السيارات التي تعمل بالبنزين”.

هذا الارتباط بين أهمية السعودية للإمدادات العالمية وبالتالي الأسعار العالمية يساعد على تفسير لماذا لا تستطيع الولايات المتحدة أن تهيمن على مجال الطاقة، خاصة وأن إنتاج الولايات المتحدة للنفط واعتمادها على الواردات أصبح الآن أقل من ذلك بكثير، في حين أن الزيادة في أسعار البنزين سيكون غير مرحب بها إلى حد كبير في واشنطن وتبعا لذلك فأن السعودية هي القوة النفطية الأولى والمؤثرة في العالم.

العرب