نتنياهو في الحقيقة مُنظِّر أيديولوجي -منظر لفكرة “أرض إسرائيل”. ومنذ اللحظة التي تولى فيها منصبه في العام 1996، وبالتأكيد منذ عودته إلى السلطة في العام 2009، كان مصمماً على منع إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أي قطعة أرض بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. وينظر نتنياهو إلى هذا على أنه مهمة تاريخية، والتي سلمها إليه والده، الذي استلمها بدوره من الزعيم الصهيوني الراحل زئيف جابوتنسكي. وفي “أرض إسرائيل”، تكون السيادة اليهودية هي السيادة الوحيدة الممكنة. ومن أجل استمرار سياسته الزاحفة -وإنما الآمنة- لضم الأراضي الفلسطينية، يحتاج رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الهدوء، وليس إلى الحرب.
* * *
“الاستسلام للإرهاب” و”الافتقار إلى الشجاعة” -هذان هما المصطلحان اللذان استخدمهما أفيغدور ليبرمان لوصف سلوك الحكومة الإسرائيلية ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تجاه مسألة غزة، وتبرير استقالته من منصبه كوزير للدفاع.
قد يفترض المرء -منطقياً- أن استقالة ليبرمان تتعلق أساساً بالاعتبارات السياسية. فمع اقتراب موعد الانتخابات، يريد الرجل أن يُنظر إليه على أنه شخص لم يستسلم لحماس. ويدرك ليبرمان، وهو الكائن السياسي المخضرم، أنه يستطيع استغلال تصوير نتنياهو كشخص جبان لخدمة أغراضه الخاصة.
وهو ليس وحيداً في ذلك. ففي سديروت يوم الثلاثاء، تجمع مئات المتظاهرين عند مدخل المدينة، وأشعلوا النار في الإطارات وهم يهتفون: “بيبي، اذهب إلى بيتك”. ويبدو أنهم قبلوا هم أيضاً بتصوير نتنياهو كزعيم جبان. كما شدد وزير التعليم، نفتالي بينيت، بالمثل على أن قرار مجلس الوزراء بقبول وقف إطلاق النار في غزة لم يكن شيئاً يروق له.
وليس هذا الوضع جديداً. فمنذ وقت بعيد، من أيام الهجوم الإسرائيلي على غزة في العام 2014، كان بينيت يحاول أن يصوّر نتنياهو كرئيس وزراء غير حكيم، والذي يفتقر إلى الشجاعة “للقيام بالشيء الصحيح” -أي تدمير حماس، حسب رأيه.
رجل سلام؟
ولكن، لم يقتصر الأشخاص الذين يصورون نتياهو كزعيم جبان على اليمين فقط. فقد تنافس يائير لابيد من حزب “ييش عتيد”، وآفي جاباي من حزب العمل وآخرون على انتقاد “جبن” نتنياهو في مواجهة حماس. وقال رئيس الوزراء السابق إيهود باراك في التعليق على قرار وقف إطلاق النار: “نتنياهو مفلس، وقد استسلم لحماس تحت النيران”.
كل خمس دقائق أو نحو ذلك، كان هناك شخص ما ينشر ذلك الفيديو على فيسبوك؛ حيث تعهد نتنياهو، كرئيس للمعارضة في العام 2009، بـ”تدمير نظام حماس”، عارضين هذا المقطع كدليل إضافي على الفجوة بين تصريحاته الحربية، وبين شخصيته المترددة الجبانة.
في المقابل، أبرز كاتب العمود، جدعون ليفي، الجانب الإيجابي في نتنياهو، واصفاً إياه بأنه “رجل سلام” في مقال نشرته صحيفة “هآرتس” مؤخراً. وكان المقال قد كتب قبل بضعة أيام فقط من بدء الجولة الحالية من العنف، لكن بوسعي أن أفترض أن وقف إطلاق النار الذي تم إقراره بسرعة مع حماس، إنما عزز أطروحاته المركزية فحسب.
يذكرنا ليفي، وبشكل مبرر، بأن نتنياهو، خلال 12 عاماً قضاها في المنصب -بما في ذلك فترته السابقة كرئيس للوزراء من العام 1996 إلى 1999- شن حرباً واحدة فقط، مقارنة بالحربين اللتين تمكن أولميرت من إطلاقهما في السنوات الثلاث التي قضاها رئيساً للوزراء. ولاحظ ليفي أن نتنياهو “كان واحداً من أكثر رؤساء الوزراء السلميين الذين شهدناهم على الإطلاق”.
ومع ذلك، فإن انتقاد جبن نتنياهو من جهة، والثناء على اعتداله من جهة أخرى، يفوتان كلاهما النقطة الرئيسية التي تفسر سلوكه. إن نتنياهو هو في الحقيقة مُنظِّر أيديولوجي -منظر لفكرة “أرض إسرائيل”. ومنذ اللحظة التي تولى فيها منصبه في العام 1996، وبالتأكيد منذ عودته إلى السلطة في العام 2009، كان مصمماً على منع إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أي قطعة أرض بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
سياسة الضم
ينظر نتنياهو إلى هذا على أنه مهمة تاريخية، والتي سلمها إليه والده، الذي استلمها بدوره من الزعيم الصهيوني الراحل زئيف جابوتنسكي. وفي “أرض إسرائيل”، تكون السيادة اليهودية هي السيادة الوحيدة الممكنة، مع رفض قيام أي دولة أخرى. ويشكل منع وجود حكم سيادي أجنبي في أرض إسرائيل أمراً حاسماً لوجود الشعب اليهودي -وبشكل غير مباشر، لبقاء الحضارة الغربية كلها. ويشكل قانون الدولة القومية تجسيداً ومظهراً من مظاهر هذه العملية الأيديولوجية.
لكن نتنياهو ليس متحجّراً. إنه يعترف بالواقع. وهو يفهم أن المجتمع الدولي لن يقبل إلغاء لاتفاقية أوسلو إلى جانب تفكيك للسلطة الفلسطينية وقيام إسرائيل بضم الضفة الغربية. وحتى في ظل حكم دونالد ترامب، الذي فعل الكثير لتشجيع هذا المشروع أكثر من أي رئيس أميركي سابق، فإن الاعتراف الدولي بعملية تؤدي إلى تدمير السيادة الفلسطينية هو أمر مستحيل.
وهكذا، فإن ما يجب أن يفعله نتنياهو هو كسب الوقت -من جهة، للدخول في عملية سياسية تصنع جموداً عميقاً، ومن جهة أخرى، للاستمرار في مشروع الاستيطان وخلق حقائق على الأرض في الضفة الغربية والقدس الشرقية، على أمل أنه لن يكون هناك، في غضون 10 أو 20 أو 30 سنة أخرى، أي خيار آخر سوى دولة إسرائيلية تستأثر بحكم وحيد وحصري على “أرض إسرائيل” التاريخية.
للاستمرار في هذا الضم الزاحف -وإنما الآمن- للأراضي الفلسطينية، يحتاج نتنياهو إلى الهدوء. سوف يصنع الضم المباشر ضجيجاً، ولذلك يعارضه، حتى بثمن باهظ هو الهجمات السامة التي تأتيه من بينيت ومن قادة من داخل حزبه، الليكود، نفسه. وسوف يصنع شن حرب ضجيجاً أيضاً، ولذلك يعمل على الحد من صنع الحرب، حتى لو كان ذلك يعني أن يصوره رقيب في الاحتياط، مثل ليبرمان، على أنه جبان وفاقد للعزيمة.
الخلاف بين حماس وفتح
يجب النظر إلى موقف نتنياهو تجاه حماس في هذا السياق. إنه يتراجع على الدوام تقريباً عن حافة شن حرب إبادة شاملة ضد حكم حماس في غزة -ولكن ليس لأنه ينفر من آفاق واحتمالات العنف أو القيام بعرض للقوة. على العكس من ذلك -إنه يرى أن إظهار القوة هو شأن أكثر أهمية من المبادئ نفسها.
وكان قد قال قبل بضعة أيام فقط في اجتماع لحزب الليكود: “الدول الأخرى تحترم المبادئ إلى حد ما، لكنها تحترم القوة أكثر من ذلك بكثير”. لكن نتنياهو لا يريد إثارة الضوضاء.
الجنود الإسرائيليون الذين يموتون في غزة ضجيج، وآلاف المدنيين الفلسطينيين الذين يموتون ضجيج، لكن القيام باحتلال قطاع غزة هو زلزال هائل، والذي سيلفت انتباه العالم كله إلى الوضع الفلسطيني، وإلى الاحتلال، وإلى حقيقة أن المفاوضات مجمدة. وهذا آخر شيء يريده نتنياهو.
لكن هناك مسألة أخرى هنا؛ شيئاً أكثر عمقاً. لقد “ورث” نتنياهو الخلاف بين حماس وفتح، بين الضفة الغربية وغزة، عندما استعاد منصب رئيس الوزراء في العام 2009. وحسب رؤيته، فإن هذا الصدع يشكل رصيداً سياسياً كبيراً.
منذ أوائل التسعينيات، تطمح إسرائيل إلى قطع غزة عن الضفة الغربية عن طريق حجب تصاريح الخروج وفرض الإغلاق، ومن خلال حصارها القاسي المفروض على قطاع غزة. وكانت الفكرة هي أنه طالما ظل جزءا الجسد السياسي الفلسطيني منفصلين عن بعضهما بعضا، فإن قدرة منظمة التحرير الفلسطينية، والفلسطينيين بشكل عام، على المطالبة بالدولة سوف تتلاشى.
تشكل حقيقة وجود حكومتين منفصلتين تعملان اليوم في غزة والضفة الغربية منجم ذهب سياسياً لكل من يرغب في إخراج أي عملية تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة عن سكتها. ونتنياهو، كما رأينا، هو بالضبط ذلك الرجل.
“إعادة تأهيل” غزة
وهكذا، من وجهة نظر نتنياهو، يشكل الحفاظ على حكم حماس في غزة رصيداً استراتيجياً من الدرجة الأولى. وفي رأيه، ستكون أي عملية يُرجح أن تؤدي إلى إقامة دولة مستقلة في غزة، منفصلة عن الضفة الغربية، نعمة حقيقية. وإذا أصبحت غزة “إمارة” خاصة بها، مثلما يقول الناس في اليمين، فإن ذلك سيوجه ضربة قاضية إلى ادعاءات محمود عباس، أو أي وريث محتمل له، بأنه يمثل الشعب الفلسطيني كله في المفاوضات لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة مستقلة.
يفسر هذا التفكير اهتمام نتنياهو المفاجئ بـ”إعادة تأهيل” غزة -كما يشير أيضاً إلى السبب الذي جعله يوافق، تحت عيون الكاميرات، على دخول حقائب محشوة بنحو 15 مليون دولار أرسلتها دولة قطر، والمخصصة فقط لدفع رواتب موظفي حماس في غزة.
كما يفسر السبب في أن نتنياهو تراجع مرة أخرى عن احتلال غزة. وحتى لو كان لهذه الخطوة العسكرية أن تنجح بطريقة ما، من دون أن تكلف أرواح مئات الإسرائيليين والآلاف -أو ربما عشرات الآلاف- من الفلسطينيين -ومن دون أن تصبح كارثة إعلامية دولية- فإن إسرائيل ستجد نفسها في نهاية المطاف وهي تسلم غزة إلى عباس والسلطة الفلسطينية، بحيث تقوم بالتالي بتعزيز مكانتهم السياسية في العالم. وهذا بالضبط هو ما يحاول نتنياهو تجنبه.
لكن هذا لا يعني القول إن حماس هي مخلوق تابع لنتنياهو أو لإسرائيل، كما قد يقول أعضاء فتح في كل محادثة خاصة -وأحياناً عامة. إن حماس هي بلا شك شوكة في خاصرة إسرائيل.
في الجولة الأخيرة من العنف، أثبتت حماس مرة أخرى أن بإمكانها بسهولة أن ترسل الحياة اليومية إلى السكون التام في مناطق واسعة من إسرائيل. والانطباع المعطى هو أن قدراتها العسكرية تتحسن فحسب، وأنها ستكون في المستقبل أكثر خطورة -ربما ليس مثل قدرة حزب الله، وإنما ليس بعيداً كثيراً عن ذلك المستوى.
معضلة نتنياهو
ومع ذلك، فإن نتنياهو واقع في مأزق. من ناحية، ولكل الأسباب التي نوقشت أعلاه، من المهم جداً بالنسبة له أن يبقي على حماس في السلطة في غزة. ومن ناحية أخرى، طالما ظلت حماس تحكم غزة، لن يكون نتنياهو قادراً على منح إحساس بالأمن لمئات الآلاف من الإسرائيليين القريبين من غزة في جنوب البلاد. ومع ذلك، ولأنه يعارض من حيث المبدأ أي مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين، فليس لدى نتنياهو طريق آخر إلى اتفاق طويل الأجل، والذي يكون من شأنه تهدئة الوضع. وليس لديه أي خيار سوى الموافقة على شروط مع حماس.
تفهم حماس معضلة نتنياهو هذه جيداً. ويدرك الفصيل الفلسطيني أن نتنياهو يعرف أنه لن يحاول القضاء عليهم. وهكذا، تستطيع حماس أن تقوم بإطلاق مئات الصواريخ على إسرائيل في ظل الظروف الحالية، مع علمها أن نتنياهو سوف يوافق في النهاية على اتفاق لوقف لإطلاق النار حالما تقدم له حماس، عبر الوساطة المصرية، واحداً. وقد استغلت حماس مصيدة المعضلة المتبادلة هذه من أجل تحقيق نصر سياسي واضح في الجولة الأخيرة من العنف، وبذلك، كشفت عن ضعف نتنياهو.
قد يكون نتنياهو مدركاً لهذا المصيدة نفسها أيضاً، ولكن بالنظر إلى ما يعتبره مهمته التاريخية المتمثلة في منع إقامة دولة فلسطينية مستقلة، فإنه مستعد لدفع الثمن السياسي لما قد يراه الجمهور على أنه جبن وافتقار إلى الحزم. وكان الثمن السياسي هذه المرة مرتفعاً بشكل خاص.
من المعقول أن نفترض أن استقالة ليبرمان سوف تؤدي إلى عقد انتخابات جديدة وتضع نهاية لإدارة نتنياهو التي بدت مستقرة حتى فترة ليست بالبعيدة. ومن المؤكد أنه سيكون من المفارقات إذا كانت حماس، التي عمل نتنياهو بجد من أجل إبقائها على قيد الحياة ودافع عنها أمام تهديدات عباس، هي التي ستكون قد آذنت في النهاية بنهاية عهد نتنياهو.