الأئمة المسيّسون.. خطر يزعزع استقرار تركيا

الأئمة المسيّسون.. خطر يزعزع استقرار تركيا

تصاعدت التحذيرات في تركيا من التهديدات المحدقة بالعلمانية في البلاد في حال نجحت رئاسة الشؤون الدينية في مسعاها لإلغاء قانون يمنع إقحام رجال الدين في الحياة السياسية. ويتوقع المنتقدون لهذه المحاولات المتكررة من الهيئة المسؤولة عن إدارة الشؤون الدينية في تركيا أن تتحول خطب صلاة الجمعة والأعياد الدينية إلى خطب سياسية بمجرد إلغاء القانون، وهو ما يراه كثيرون خطرا يهدد استقرار البلاد وينذر بانقسام جذري في المجتمع التركي.

أنقرة- تسعى الهيئة المسؤولة عن إدارة الشؤون الدينية في تركيا مرة أخرى إلى إلغاء قانون يمنع الأئمة من الانخراط في الأنشطة السياسية بالبلاد. وكانت المحكمة الدستورية قد حكمت العام الماضي برفض طلب مماثل كان يهدف إلى إلغاء قانون تم إقراره في الأصل عام 1965.

وإذا نجحت رئاسة الشؤون الدينية في مسعاها هذه المرة، فسيكون بإمكان الأئمة إلقاء خطب سياسية في المساجد خلال صلاة الجمعة والأعياد الدينية، وهي خطوة يقول الكثيرون إنها قد تزيد من زعزعة استقرار تركيا.

علمانية على المنهج التركي
تأسست رئاسة الشؤون الدينية والمعروفة باسم ديانت في 1924 على يد مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك بهدف تولي الدولة مسؤولية السيطرة على الدين، وذلك في مسعى منه لضمان علمانية الدولة. لكن لم يكن هذا النظام يشبه على أي حال غيره من النظم العلمانية التي تأسست في الغرب. وكان رجال الدين وأماكن العبادة الخاصة بالمسلمين بالفعل خاضعين لسيطرة الدولة إبان حكم الإمبراطورية العثمانية، واستمر هذا التقليد في تركيا المعاصرة، حيث تضطلع الدولة بإدارة الشؤون والممارسات الدينية لضمان استقرار البلاد.

وقد يؤدي إنهاء العمل بقانون عام 1965 الذي يحظر على الدعاة المسلمين مزاولة أنشطة سياسية إلى طي صفحة هذا التقليد والسماح رسميا بتدخل الدين في المجالين التشريعي والسياسي. ومن المتوقع أن يساعد ذلك حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم على أن يكون له دور أكبر في إدارة الشؤون الدينية من خلال الأئمة المنخرطين في الحياة السياسية. ووفقا لصحيفة جمهوريت المحلية، من الممكن حتى أن يتغير القانون بحيث لا تظل المحكمة الدستورية تشرف على الإجراءات التأديبية لرجال الدين.

ومع ذلك، لا تعارضه جميع الأطراف الفاعلة في الحياة السياسية في تركيا. فعلى سبيل المثال، يقول عبدالرحمن ديلي باك، وهو كاتب مقالات في صحيفة يني عقد الإسلامية، إن الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الغرب تعمل جنبا إلى جنب مع الكنيسة. وعلى الرغم من أنها في بعض الأحيان تختلف فيما بينها حول القضايا المثيرة للجدل مثل تحديد النسل، إلا أنها لا تزال تعمل معا.

وأضاف ديلي باك “الإنجيليون واليهود متجذرون في نسيج الدولة. والمساجد ورجال الدين في تركيا يخضعون لسيطرة الدولة. وإذا كانت الدولة تحكم المؤسسات الدينية وتديرها، فلا ينبغي أن يكون من غير المألوف أن تكون لدى المؤسسات الدينية وجهات نظر متوازية أو معارضة. فالتأييد أو الاعتراض أمران محتملان في إطار الدين والأخلاق والقانون والتقاليد والأعراف”.

لكن المفكر الإسلامي البارز إحسان إلياجيك لا يشاطره الرأي، حيث يعتقد أن السماح للسياسة بالتسلل إلى المساجد سيؤدي إلى انقسام جذري في المجتمع التركي، مشيرا إلى أن هناك 24 مليون شخص من مختلف الميول السياسية يجتمعون كل جمعة من أجل الصلاة. وقال “تركيا لن تكون قادرة على تحمل حدوث ذلك، وستجد الناس يضطرون إلى اختيار مسجد بعينه يتوافق مع آرائهم السياسية. وأنا أعتقد أن الدولة يمكن أن تصبح علمانية ولكن لا يمكن للبلد أن يكون علمانيا بالكامل. كما يجب على الدولة أن تقف على مسافة متساوية من جميع الأديان”.

وإذا فشلت الدولة في القيام بذلك، فمن الممكن أن يؤدي هذا الانقسام، حسب إلياجيك، إلى حرب أهلية، في ظل الاستقطاب السائد في تركيا اليوم. ولقد رأينا بالفعل مؤشرات على زيادة التوترات في بلاد الأناضول مؤخرا.

وفي الأسبوع الماضي أعلن إمدات أتمجة، وهو إمام مسجد في منطقة أيفاجيك التابعة لإقليم سامسون، مع نهاية صلاة الجمعة أنه سيرشح نفسه لمنصب رئيس بلدية أيفاجيك ممثلا عن حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها في مارس 2019. وقد أثار استغلال أتمجة للمسجد في القيام بهذا الإعلان انتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي واتهامات له باستخدام منصبه الديني لنشر رسالة سياسية.

الدين المسيس يخلق أعداء
قال أوزجان بالي، رئيس جمعية ربوبية تأسست حديثا في تركيا، “ستكون الحرب نتيجة حتمية للسماح لرجال الدين بالانخراط في النشاط السياسي في المساجد”. وفي بيان مكتوب قال بالي إن الدين المسيّس دائما يخلق أعداء له، وأوضح “المنظمات الإرهابية التي تبني أيديولوجيتها على الدين، مثل القاعدة وحزب الله وجماعة بوكو حرام والمنظمات المماثلة، هي جماعات معادية للسلام تشكلت نتيجة تسييس الدين. والأمر المثير للاهتمام هو أنهم يؤمنون بأن الدين والله هما الشيء نفسه”، فيما حذر البعض الآخر من أن السماح للأئمة باتخاذ مواقف سياسية من شأنه أن يخلق نظاما يشبه في جوهره أنظمة الدول غير العلمانية، مثل جمهورية إيران الإسلامية.

وقال إسلام أوزجان، رئيس التحرير السابق للقسم العربي في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية التي تديرها الدولة، “حتى الأحزاب الإسلامية في العالم العربي والشرق الأوسط على نطاق أوسع ترفض فكرة السماح للشخصيات الدينية بالدخول في معترك السياسة”. وأضاف “ولو تم السماح بذلك، فإن هذا من شأنه أن يكون انتكاسة كبيرة للمجتمع”.

رئاسة الشؤون الدينية والمعروفة باسم ديانت تأسست في 1924 على يد مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك بهدف تولي الدولة مسؤولية السيطرة على الدين

وتابع “كان الإخوان المسلمون ناشطين في المساجد خلال أول عامين من تأسيس حركة الإخوان في مصر وقاموا بالدعاية للحركة. لكن هذه الحركة لم تكن حزبا سياسيا بالمعنى الشائع (في ذلك الوقت) وكانت تهدف آنذاك إلى تعزيز الوعي والتحول الاجتماعي”.

وأشار أوزجان أيضا إلى أن الدولة غالبا ما تستخدم الدين كوسيلة للسيطرة. وأضاف “لقد كان الدين في المجتمعات الطبقية إحدى الأدوات الأيديولوجية التي تستخدمها الحكومات لتعزيز ثقافة الخنوع”.

من ناحية أخرى، يرى إلياجيك أن الأئمة العاملين لدى رئاسة الشؤون الدينية ينبغي تصنيفهم باعتبارهم موظفين حكوميين، وذلك على اعتبار أنهم يتقاضون رواتبهم من حصيلة الضرائب العامة. ويحظر القانون على موظفي الخدمة المدنية التركية الانخراط في أي نشاط سياسي. كما يؤمن إلياجيك بأن حرية الدين حق فطري لا تملك الدولة سلطة تقييده. وقال “في رأيي، ينبغي إلغاء رئاسة الشؤون الدينية، إذ لم يعد لها مكان الآن ولا ينبغي أن تكون موجودة. فديانت لا تختلف كثيرا عن المؤسسات الأمنية. ويجب على الدولة فرض حظر على كل من القوات المسلحة وديانت فيما يتعلق بممارسة الأنشطة السياسية. ومن غير المقبول أن يتم توجيه الناس والترويج لصالح حزب سياسي معين أثناء الصلوات التي تحيي ذكرى المولد النبوي والأعياد الدينية وفي المساجد. وهذا ينطبق أيضا على الجنود”.

من جانبه شدد أوكان أكيوز، نائب رئيس جمعية الملحدين التركية، على أن السبيل إلى منع إساءة استخدام الدين يكمن في مبدأ الفصل بين السلطات. وقال “رغم النوايا الحسنة التي صاحبت تأسيسها، فإن رئاسة الشؤون الدينية بات يشوبها عدم المشروعية وإساءة استخدام السلطة بشكل مستمر، وهو وضع يخدم أهداف الحكومة”.

وأضاف أكيوز “ومع تعاقب الإدارات على رئاسة الشؤون الإدارية، ستجد أن لكل إدارة جديدة هيكلها المجتمعي الخاص بها، وهو ما ينعكس على مساجدها التي بنتها الدولة وعلى اختيار أئمتها الذين يدفع الشعب رواتبهم. وهي تهدف الآن إلى إمداد الإدارة الحالية بالنفوذ والمعلومات من خلال تسجيل الأنشطة السرية للجمعيات التي تقع تحت سيطرتها”.

العرب