تنظيم «داعش» يعود بشكل تدريجي لمحاولة ضرب الامن في المناطق التي خسر السيطرة عليها في العراق، والقلق من تحركات التنظيم بدأ يساور الجميع، الى درجة اعلان حملات عسكرية جديدة، او المطالبة باخرى، او توجيه اللوم الى تراخي القوى الامنية، او توتر الاجواء السياسية.
لكن معطيات عميقة كان لابد من مراجعتها بعد تحرير المدن عسكرياً من عناصر التنظيم يتعلق بعضها بعدم وجود اية ستراتيجية لمعالجة الاثار التي تركتها الحرب القاسية والمدمرة، وتخص اخرى العودة للتفكير بعقل «داعش» والبحث عن خياراته وفرصه والاليات التي يمكن ان يعتمدها لاستعادة توازنه بعد الضربات الكبيرة التي وجهت اليه. وليس سراً ان قضية «اعمار المدن المحطمة» لم يكن سوى شعار سياسي جذاب جرى استخدامه وقت الانتخابات، وسمح بتسلق طبقة سياسية على ظهر تلك المدن لافتتاح مزاد على المناصب الحكومية، والبحث عن اية فرصة لامتصاص المال الشحيح المخصص لموازناتها، فيما اصبحت عودة العائلات النازحة واصلاح منازلها مهمة الناس انفسهم، يستدينون المال وتبيع النساء مصوغاتها لاصلاح شبابيك المنازل.
لقد اشاحت بغداد بوجهها تماماً عن المدن المتضررة والمخيمات، منشغلة بصراع احزابها وخائفة من تداعيات انتفاضة البصرة، لكنها افترضت ان بامكانها عبر حركة علاقات عامة غير مكتملة ان تدفع المجتمع الدولي لتبني مشروع «مارشال» عراقي يتحمل تكلفة اعادة الاعمار، حتى انها حرمت مدينة كبرى مثل الموصل من موازنتها لعام 2019 على امل الحصول على مبلغ 30 بليون دولار الذي اقره مؤتمر الكويت على شكل مساعدات ومشروعات وديون مسهلة، وهو الافتراض الذي لم يتحقق، وليس بالامكان تحقيقه في المدى المنظور كما يبدو.
الصراع السياسي حرم العراق من فرصة اشراك العالم في اعمار الموصل والمدن الاخرى، وشك المانحين بنزاهة المنظومات الحكومية العراقية المجربة بالفساد والحكومات المحلية المستعدة لسرقة علب حليب الاطفال من افواه النازحين والطبقة السياسية المعنية باستخدام حرب الشعارات لتمرير مكاسبها، قاد الى تعثر كل ماكان يمكن عمله لتغيير البيئة الفاسدة التي يدرك الجميع انها نموذجية لعودة «داعش».
في التفاصيل، لم يكن «داعش» يفكر بحرب نهائية دفاعاً عن المدن التي احتلها، وقد تم التنبيه مراراً الى ان التنظيم عمل في وقت مبكر على حماية قياداته وتغيير آليات عمله، واستثمار الظروف الموائمة لزرع خلايا نائمة حتى في اوساط النازحين انفسهم.
أحد قيادات التنظيم وهو «صيد ثمين» من المفترض ان يتم الكشف عنه خلال الايام المقبلة بعد اعتقاله في قلب بغداد على يد المخابرات العراقية التي لاحقته في دول مختلفة، تؤكد المصادر انه كشف عن منظومة اجراءات اعتمدها «داعش» في وقت مبكر لتغيير نمط عمله والتحول من مسك الارض الى حرب العصابات ومنها الى عمليات الذئاب المنفردة.
المعلومات تؤكد ان تغييراً شاملاً حدث في هيكلية «داعش» وان جيلاً من القيادات الوسطية حل محل القيادات الرئيسية، وان الخلايا التي دفع بها التنظيم في اوساط النازحين والمهاجرين وحتى في اوساط الحشد الشعبي والقوى الامنية والاحزاب السياسية تعود بهدوء لترتبط خيطياً استعداداً لاستئناف عملياتها، وتهيء بذلك البيئة التي تتيح اعادة فرض النفوذ على المدن.
خطورة «داعش» في قدرته على التكيف مع الظروف التي يواجهها، وهو يفعل ذلك في العراق منذ سنوات، ويمتلك الخبرات والعلاقات في الاوساط المختلفة لضمان التكيف.
ان التحذير من عودة نشاط «داعش» يستند الى معطيات جدية وليس مجرد مخاوف، والدولة العراقية التي قاومت التفتت وانتصرت على «داعش» ولو بتكلفة باهضة، عليها حماية هذا الانتصار ، عبر مجموعة اجراءات لاتقف عند حدود رعاية المتضررين والغاضبين من الاهمال ومنع استقطابهم، واطلاق اليات تدقيق امني للعائدين الى المدن، بل وقبل ذلك قطع الطريق امام مشروعات سياسية مريبة، تحاول استعادة اجواء الشحن الطائفي وتقويض فرصة تشكيل حكومة قوية ومتماسكة قادرة على وضع ستراتيجية طويلة المدى لمحاربة «داعش» واغلاق الثغرات امامه.