على الرغم من محاولة التوصل إلى اتفاق لتشكيل حكومة في البرلمان اللبناني في أواخر تشرين الأول/أكتوبر، زاد “حزب الله” الآن من مطالبه المتعلقة بتمثيل حلفائه السنّة في الحكومة الجديدة. وقد أدى هذا الشرط الجديد إلى تجدد الجمود السياسي في تشكيل الحكومة اللبنانية المشلولة لمدة سبعة أشهر. ولا يجب تفسير مطالب “حزب الله” المتزايدة على أنها مجرد خدعة محلية للمساومة، بل هي استجابة مباشرة للتصعيد الدولي الأكبر ضد طهران والمجموعة اللبنانية المسلحة.
ويوضح موقف “حزب الله” الجديد كيف أن المواجهة الإيرانية-الأمريكية المتنامية في جميع أنحاء المنطقة قد تتجسد على أرض لبنان. ووفقًا لمصادر قريبة من الحزب، رأت قيادة “حزب الله” قبل بضعة أشهر أنه من الأفضل خدمة مصالحها من خلال تشجيع مختلف الفرقاء اللبنانيين على التوصل إلى اتفاق حول تشكيل الحكومة، بصرف النظر عن الحصص التي سيحصل عليها حزبه وحلفاؤه. وفي ذلك الوقت، شكّلت التوقعات الاقتصادية الكارثية المحلية والعقوبات المتزايدة دوافع قوية لـ”حزب الله” لإعطاء الأولوية للشرعية الدولية التي لا يمكن أن توفرها سوى حكومة يقودها الحريري.
إلا أنّ تصاعد الضغوطات الممارسة على “حزب الله” وداعمته إيران – ولا سيما إعادة فرض العقوبات التي تستهدف إيران في تشرين الثاني/نوفمبر، والتي تضم عددًا من شركائها التجاريين وتستهدف القطاعات الاقتصادية الرئيسية في إيران مثل صادرات النفط والشحن والمصارف – يدفع “حزب الله” إلى إعادة النظر في خطته السابقة للتغلب على القيود الاقتصادية الوشيكة. ومن الأمور الحاسمة لإعادة الحسابات هذه هي الرغبة الواضحة من جانب المصارف الأوروبية في الامتثال لسياسة العقوبات الأمريكية على الرغم من تصريحاتالاتحاد الأوروبي التي يعرب فيها عن “أسفه الشديد” إزاء العقوبات. ويبدو الآن أن “حزب الله” يشعر بالقلق من أنه حتى الحكومة التي يقودها الحريري لا يمكنها تزويد المجموعة شبه العسكرية بالغطاء الدولي الذي كانت تأمل به، وأن تعزيز موقفها داخليًا هو مناورة سياسية داخلية أكثر فاعليةً في الوقت الحاضر.
ونتيجةً لذلك، عمد “حزب الله” إلى تغيير تكتيكاته. وبات يعمل جاهدًا الآن لضم الحلفاء السُنّة إلى مجلس الوزراء اللبناني ليحلوا محل حصة الحكومة التي كان من المتوقع سابقًا أن تكون لحلفاء رئيس الوزراء السني ورئيس “تيار المستقبل” المعارض لـ”حزب الله” سعد الحريري.
وقد طلب “حزب الله” تعيين ستة نواب متحالفين معه ويضمون وزير الثقافة السابق عبد الرحيم مراد، وعدنان طرابلسي، والعضو في كتلة “حزب الله” وليد سكرية، والعضو في كتلة حركة “أمل” الشيعية قاسم هاشم، وجهاد الصمد، وفيصل كرامي من تيار “المردة” المقرب من “حزب الله”.
وسيسمح وجود هؤلاء الحلفاء في الحكومة لـ”حزب الله” بالتحكّم بمالية الحكومة بشكل أكبر، وهو احتمال جذاب بشكل خاص نظرًا للمخاوف من تراجع الدعم المالي لـ”حزب الله”.وقد تؤدي المشاكل المالية الإيرانية الأوسع نطاقًا إلى فرض قيود على تمويلها لـ”حزب الله”، الأمر الذي من شأنه أن يفاقم المشاكل المالية العامة للحزب.
وتفيد مصادر قريبة من المنظمة بانخفاض كبير في الخدمات المقدمة. وهذا يمكن أن يفسّر طلب “حزب الله” استلام حقيبة وزارة الصحة، إذ يتزايد عجز المجموعة عن تغطية نفقات الرعاية الصحية الخاصة بها. وفي هذا الإطار، أشار منير الربيع، وهو كاتب عمود في صحيفة “المدن” حول “حزب الله” والسياسة اللبنانية، إلى أن المجموعة المسلحة كانت أيضًا تغلق بعض مكاتبها أو تنتقل إلى مكاتب أصغر لتخفيض نفقاتها.
وتؤثر هذه المشاكل المالية سلبًا على المنظمة على الرغم من قوتها العسكرية. فمع السيطرة على الوزارات الحكومية، مثل وزارة الصحة المذكورة أعلاه، قد يتمكن “حزب الله” من إسناد التزامات مالية إلى مؤيديه. ومن المرجح أيضًا أن تعيق حكومة مؤيدة لـ”حزب الله” اعتماد العقوبات أو تنفيذ التدقيق المفروض على المنظمات المستهدفة.
وفي خطاب ناري، أكّد الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله أن الحزب لا ينوي التراجع عن هذا المطلب، مشددًا على أنه لن يتوقف عن دعم حلفائه “مهما طالت قضيتهم”. وكذلك أتهم السيد حسن نصرالله خطاب رئيس الوزراء بـ”التحريض الطائفي” وبأنه لن يؤدي إلى أي نتيجة.
وفي هذا الصدد، يقول الربيع: “كلما شعر “حزب الله” وإيران بأنهما الضحية، زادا من تطرّف مواقفهما”، مضيفًا أن “الضغط السياسي الذي يمارسه “حزب الله” مؤخرًا يهدف إلى إعطاء الأمل لقاعدته الشعبية والشعور بالقوة”.
وإن مطالب نصرالله السياسية التي تسمح للحزب بالتعبير عن حس بالقدرة السياسية توفر له أيضًا نفوذًا سياسيًا حقيقيًا قد يؤدي إلى دفع معارضيه، مثل الحريري، إلى التفاوض. فهذا التهديد فعال بشكل خاص نظرًا للخوف السياسي الأوسع من التصعيد في بلد مستقر نسبيًا في الوقت الحالي.
وليس التصعيد بالتهديد الفارغ. فبفضل سوريا، تحولت المنظمة من مجموعة متمردة إلى مجموعة شبه عسكرية أكثر تقليدية وأكبر حجمًا، وأصبحت الآن قادرة على القيام بتكتيكات مناورة أكثر فتكًا وعمليات منسقة. كما عززت المنظمة أسلحتها المتقدمة خلال السنوات العشرة الماضية. وتفيد التقارير بأن “حزب الله” يملك أكثر من 130 ألف صاروخ وقذيفة، ومن بينها الصواريخ البالستية الموجهة المجهزة برؤوس حربية كبيرة. لذا، يمكن لأزمة مالية طويلة المدى أن تحوّل “حزب الله” إلى أسد محاصَر – حيث يمكن لقوته العسكرية وهشاشته المالية المحتملة أن تدفعه إلى استخدام العنف بكل سهولة.
وبعيدًا عن تزايد المخاوف المالية، من المرجح أن يرى “حزب الله” فرصةً حقيقية في الدعوة جهارًا للضغط من أجل زيادة حصة حلفائه السنّة في الحكومة. فالمملكة العربية السعودية، التي قدمت قوى موازنة للنفوذ الإيراني في لبنان من خلال دعمها لـ”تيار المستقبل” الذي يتزعمه الحريري، أصبحت في الآونة الأخيرة غارقةً في سلسلة من الفضائح السياسية والخارجية، وآخرها عملية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي المنسوبة إلى المقربين من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ويعتقد “حزب الله” الآن أنه من المستبعد أن تتدخل المملكة في شؤون لبنان أو أن تستفيد من موقف “حزب الله” الضعيف نظرًا لوضعها السياسي الداخلي.
وعلى وجه التحديد، فإن العزل المتزايد للمملكة العربية السعودية – وهي الداعمة التقليدية للمجتمع السنّي في لبنان – يسمح لـ”حزب الله” بالاستفادة من مكاسبه البرلمانية التي تزوّده الآن بالأغلبية الساحقة مع انخفاض خطر الاستجابة الإقليمية. وعليه، يريد “حزب الله” فك قبضة الحريري عن الطائفة السنية. وفي هذا السياق، يؤكّد الربيع أنه من خلال الترويج لتعيين الوزراء السنّة الذين يتعاطفون مع قضيتهم، يعمل “حزب الله” على بناء قاعدة شعبية في ملعب “تيار المستقبل” التقليدي.
وتجدر الإشارة إلى أن الوزارات في لبنان تسمح للفصائل السياسية بإنشاء شبكة من الموالين من خلال السماح للذين يسيطرون على الوزارة بتوفير فرص عمل وعقود مثمرة مع الدولة. فإن انقسام المجتمع السني وتجزئة المشهد السياسي في لبنان سيكون مفيدًا إلى حد كبير لـ”حزب الله”. وعلى عكس خصومه السياسيين، حافظ “حزب الله” على احتكار الدعم داخل مجتمعه. ويعود الفضل إلى حدٍ كبير إلى التأييد الشعبي الواسع الذي يتمتع به “حزب الله” والدعم المتواصل من حركة “أمل” الشيعية.
وفي هذا الصدد، يرفض الحريري وحلفاؤه السياسيون علنًا مطالب “حزب الله” السياسية الجديدة. وقال النائب السابق والعضو في “تيار المستقبل” الدكتور مصطفى علوش في مقابلة مع الكاتب: “إنّ رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري لن يتراجع أبدًا وقد استبعد تخصيص أي من مقاعده الوزارية لحلفاء “حزب الله””. وإذا كان كل من الحريري و”حزب الله” متمسكَين بالمواقف التي يعبران عنها حاليًا، فإن هذه المسألة قد تؤدي إلى استمرار الشلل في تشكيل الحكومة.
ومن جهة أخرى، يمكن التوصل إلى حل شكلي من أجل تشكيل الحكومة كما هو الحال غالبًا في لبنان. فعلى سبيل المثال، يمكن للرئيس ميشال عون، وهو حليف لـ”حزب الله”، أن يخصص إحدى وزاراته لحلفاء “حزب الله”، الأمر الذي سيحول دون فقدان الحريري التأييد الذي يحظى به في الحكومة بشكل مباشر.
ومع ذلك، فإن التوافق السياسي العام لمجلس الوزراء الجديد هو الذي سيقرر على الأرجح ما إذا كانت الحكومة اللبنانية ستنضم إلى المحور الإيراني السوري أم ستحاول الحفاظ على مظهر الحيادية. وباعتبار أنّ الحريري غير قادر على حماية “حزب الله” بغطاء من الشرعية، لم يعد “حزب الله” بحاجة إلى الحريري. وبالنظر إلى ميزان القوى الحالي في لبنان الذي يميل لصالح “حزب الله” إلى حد كبير، يزداد احتمال الاستجابة إلى هذه المطالبة بالسلطة في الحكومة اللبنانية.