لم يصدر عن القيادة الروسية أي انتقادات تذكر على تنفيذ اتفاق سوتشي الأخير مع تركيا بخصوص إدلب 17 سبتمبر/أيلول الماضي، بل صدرت بعض التطمينات والشكر الروسي على الموقف التركي المتعاون على تطبيق اتفاق سوتشي المذكور، وتسعى روسيا لحل المشكلة في سوريا، رغم الوجود العسكري الأمريكي شرقي الفرات وشمال شرق سوريا، فروسيا تعلم أن أي تقدم على جبهة الحل السياسي، وتشكيل هيئة صياغة الدستور ـ التي فشل مؤتمر أستانة الحادي عشر قبل أسبوعين في تحقيقها ـ لن يتم طالما كانت الأراضي السورية في حالة تقسيم عسكري فعلي من قبل عدد من جيوش العالم وتوابعه، وبالأخص التواجد العسكري الأمريكي فيها، وتوابعه من الأحزاب الإرهابية شمال سوريا.
لقد أكد المبعوث الأمريكي للتحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» الإرهابي بريت ماكغورك، أنهم سيواصلون البقاء بسوريا لحين تشكيل قوات أمن داخلية، لضمان استمرار الحفاظ على المكاسب التي تم تحقيقها ضد التنظيم»، هذا الموقف الأمريكي من آخر التصريحات الأمريكية بتاريخ 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وقد بين المبعوث الأمريكي أن المعركة ضد «داعش» لا تزال مستمرة، ومن وجهة نظر أمريكية لبريت ماكغورك أن وجود تنظيم «داعش» انخفض بنسبة 1% فقط، بينما كان الرئيس الأمريكي ترامب قد تعهد بالقضاء على «داعش» خلال ثلاثين يوما من استلامه السلطة قبل عامين، ويرى ترامب أن تقدما كبيراً وقع ضد «داعش» في سوريا والعراق، وهذا يشير إلى تناقض في الرؤية الأمريكية حول معركتها وأهدافها في سوريا، بين رؤية يتبناها البيت الأبيض وأخرى تنفذها على الأرض وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون، التي تعمل لاستمرار المعركة في سوريا لتبرير وجودها العسكري طويل الأمد.
هذا التصور الأمريكي لإبقاء قوات لها في سوريا طويلة الأمد تعارضه روسيا وتركيا، فتركيا ترى أن التواجد الأمريكي يقوم بتدريب وتسليح الأحزاب الإرهابية (الكردية) بشكل مستمر ومتزايد، رغم كل الاعتراضات التركية السابقة، ومنذ يومين أعرب المتحدث باسم حزب «العدالة والتنمية» التركي الحاكم عمر جليك، عن استياء بلاده الشديد من الأنباء حول تدريب الولايات المتحدة 35- 40 ألف شخص شمال شرقي سوريا، من عناصر ما يسمى «قوات سوريا الديمقراطية» التي يشكل تنظيم «ي ب ك/ بي كا كا» الإرهابي عمودها الفقري.
هذه الأرقام مصدرها الجنرال جوزيف دانفور، رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية، الذي أعلن قبل أيام أن «الولايات المتحدة بحاجة إلى تدريب 35- 40 ألف مقاتل محلي في سوريا»، وقال «لقد أنجزنا هذا العمل بنسبة 20%»، فإذا كان تدريب 20% من المشروع الأمريكي في سوريا قد أخذ أكثر من أربع سنوات، فإن التتمة ستحتاج لأكثر من عشر سنوات، لأن إطالة أمد الصراع في سوريا مطلب أمريكي أصلاً، وهدفها من إيجاد قوات محلية واضح الأهداف، وهو تخفيف الأعباء العسكرية والبشرية والمالية والشعبية والدولية عليها، لأن القوات المحلية ستكون هي الأداة الأمريكية المحلية، وأمريكا قادرة على إيجاد تمويل لها من دول المنطقة أيضاً، وهذا يعني أيضا تمسك البنتاغون بتقسيم سوريا، أو إقامة دولة كونفدرالية من ستة كيانات سياسية.
هذا ما جعل حرب التصريحات الروسية الأمريكية تزداد يوما بعد يوم، فروسيا ترى أن الضغوط التركية على أمريكا لم تنجح في منع أمريكا من ترسيخ تواجدها في سوريا، وكان من أهداف التعاون الروسي التركي، من وجهة نظر روسية، أن تكون اتفاقياتها مع تركيا بديلا عن اتفاقياتها مع أمريكا، لأن روسيا حينئذ ستكون قادرة على نكث عهودها مع تركيا، ولن تستطيعه مع أمريكا، ومنذ أن بدأ مؤتمر أستانة نظرت إليه أمريكا نظرة الريبة، ورفضت المشاركة فيه إلا بصفة مراقب، ولكنها لم تمانع ان ينجح المؤتمر بوقف إطلاق النار، أي أنها لم تمانع أن تستثمر نتائج مؤتمر أستانة لتثبت تواجدها العسكري والسياسي في سوريا، وليس لإخراجها من سوريا، ولذلك تقف أمريكا ضد اتفاق استانا في مراحله الأخيرة، لأن من متطلباته خروج القوات الأمريكية من سوريا، وهو ما يعني أن المشروع الروسي في سوريا الآن يتواجه مع المشروع الأمريكي فيها، فأمريكا تقول إن مؤتمر جنيف هو المرحلة الأخيرة وليس مؤتمر أستانة ولا سوتشي، بمعنى أن الأمريكي هو من يضع السيناريو الأخير لحل الأزمة في سوريا.
البنتاغون متمسك بتقسيم سوريا، أو إقامة دولة كونفدرالية من ستة كيانات سياسية
موقف أمريكا من اتفاق إدلب كان الترحيب الشكلي، بينما موقفها الحقيقي هو إدخال روسيا وتركيا في صراع حقيقي حول إدلب، وقد يكون من الأخطاء الكبرى التي ترتكبها أمريكا في المنطقة، ومع تركيا خصوصا، هو ظنها أنها تستطيع استخدام تركيا أو جيشها في منع توسيع نفوذ الجيش الروسي في سوريا وجنوب تركيا، فعقيدة الجيش التركي لعقود طويلة هي منع توسيع النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط، فهذا موقف تركي تاريخي، وتحاول أمريكا تنشيطه لجعل الجيش التركي يعمل فقط ضمن انتمائه في حلف الناتو وتحالفه الاستراتيجي مع الجيش الأمريكي، وأن يقف حجرة عثرة ضد توسع نفوذ الجيش الروسي، بينما الجيش التركي لا يرى خطورة من الجيش الروسي على المدى القريب، بقدر ما يجد من مخاطر من الجيش الأمريكي وما يقوم به من مشاريع مريبة شمال سوريا وجنوب تركيا. إن أمريكا لا تخفي موقفها من إنهاء مسار مؤتمري أستانة وسوتشي، وبالأخص إذا فشلا في تشكيل هيئة دستورية، بحسب الرؤية الأممية التي تمثل الرؤية الأمريكية، فالمبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري يقول «بضرورة إنهاء مسار آستانة وسوتشي، إذا فشلت جهود تشكيل اللجنة الدستورية قبل حلول منتصف ديسمبر الجاري»، وهو يعلم أن روسيا لا تستطيع فعل ذلك إلا في حالة مواجهتها مع حكومة الأسد وجيشه، وبالتالي مع الرؤية الإيرانية وتوابعها الميليشياوية، وهو ما يمثل تهديدا حقيقيا للتواجد العسكري الروسي في سوريا أيضاً، وفي حالة جمود هذه الحالة وهو ما لا تحتمله روسيا إلا بصعوبة متفاقمة فإن أمريكا تعلن انها سوف تتخذ إجراءات جديدة لتحريك الأوضاع في سوريا، وفي هذه الحالة فإن روسيا قد تصبح مضطرة للنكوث بتعهداتها مع تركيا قبل ان تكون مضطرة للتخلي عن تعهداتها مع إيران والأسد.
يدرك الروس أن الضغوط الأمريكية عليها في سوريا لن تتوقف، ومنها إعاقة اتفاقيات استانة وسوتشي، ومنها المطالبة بإخراج القوات الإيرانية وميليشياتها من سوريا، وهو ما ترفضه روسيا بشكل عام، بينما فرضت روسيا على إيران سحب قواتها من الحدود مع الدولة الإسرائيلية، بل سحبت إيران مشاريع تصنيعها للصواريخ من المدن السورية إلى الأراضي اللبنانية تحت نفوذ حزب الله اللبناني، أي أن إيران خضعت للمطالب الاسرائيلية في سوريا بضغوط روسية، ولكن روسيا لا تستطيع الخضوع للمطالب الأمريكية حول إيران في سوريا، إلا إذا بدأت بالتخطيط لانسحاب حقيقي لجيشها من سوريا، بحيث يرجع إلى اتفاقيات ما قبل 2015، ولكنها قد تكون مضرة قبل ذلك للتراجع عن اتفاق سوتشي بشأن إدلب، كما تراجعت عن فرض ضغوط على حكومة الأسد بشأن تشكيل لجنة صياغة الدستور.
إن الحكومة التركية لا تخفي موقفها من اعتماد مؤتمر جنيف كمظلة ختامية للحل السياسي في سوريا، ولكنها كانت بحاجة إلى توفير أسباب استقرار استراتيجية جنوب تركيا وشمال سوريا معاً، وهو ما تعذر الاتفاق عليه مع أمريكا وحدها حتى الآن، وهذا ما جعلها تتفق مع روسيا على تفاهمات عسكرية وسياسية حول سوريا، هي أكثر ضمانا لأمنها القومي التركي من الاتفاق مع أمريكا وحدها، وما يجعل السياسة التركية بحاجة إلى روسيا هو قدرة الأخيرة على لجم جيش الأسد والميليشيات الإيرانية من مهاجمة إدلب أولاً، ومحاولتها أي روسيا التوازي مع التواجد الأمريكي شمال سوريا ثانيا، ومحاولتها الجادة أي روسيا لإيجاد حل سياسي في سوريا ثالثاً، فتركيا بحاجة للسياسة الروسية في سوريا لأن الوجود الروسي في سوريا مؤقت مهما طال أمده، بينما تعمل إيران وأمريكا وإسرائيل لاستدامة التمزق والحرب فيها ولو لعقود مقبلة، ولكن الخوف من روسيا يأتي دائما من عدم احترامها لتعهداتها إذا تعارضت مع مصالحها الخاصة، وأول مؤشرات ذلك عدم ضغط الحكومة الروسية على الأسد وحكومته للموافقة على تشكيل لجنة صياغة دستور أممية تنهي صراع سوريا.