جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) مشهور عالميا بجرأة عملياته، لكنه في السنوات الأخيرة مر بفترة عصيبة شهد فيها بعض الفشل والحذر وخلافات شديدة مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
ووفقا لصحيفة فرنسية، فإن رئيسا جديدا للجهاز صنع على عين نتنياهو يبدأ حربا سرية جديدة ضد إيران العدو الرئيسي المعلن لإسرائيل.
وفي تحقيق صحفي مطول لصحيفة لوفيغارو الفرنسية كتب الصحفي فينسان نوزيل أن مدير الموساد يوسي كوهينأشاد علنا بمواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وقال بندوة في القدس “منذ أن أصبح الرئيس ترامب في السلطة أصبحت الأمور مدهشة بالنسبة لنا”، في إشارة إلى موقف ترامب من الاتفاق النووي الإيراني الدولي الموقع عام 2015، وانتقاده إيران باعتبارها “دولة إرهابية”.
”
على الرغم من سمعة جهاز الموساد فإنه بدا خلال العشريتين الأخيرتين أخرق ومثيرا للجدل، ففي سبتمبر/أيلول 1997 تم اعتقال اثنين من عملائه في الأردن بعد تسميم رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الفلسطينية حماس خالد مشعل
”
ويقول كوهين إنه عندما يتم تحديد “الأشرار” يجب على “الأخيار” محاربتهم، مضيفا “سألني صديق أميركي مؤخرا: ماذا سيحدث إذا هزمت إيران؟ فقلت له إذا انتصرنا على إيران فسأصبح عاطلا عن العمل، لكن إذا لم تهزم إيران ربما أصبح بلا مأوى”.
وبالتالي، فإن رئيس الموساد يبدو مرتاحا -حسب الكاتب- ولديه ثقة صديقه نتنياهو الذي عينه في هذا المنصب الإستراتيجي بعد سنوات من الاحتكاك بين رؤساء هذه الخدمة ورئيس الوزراء.
ويعتبر رجل المساد المخضرم يوسي كوهين -الذي ارتقى سلم الجهاز خلال ثلاثة عقود- أحد صقور الأمن الإسرائيلي ويسمونه “النموذج”، وهو خمسيني يتكلم عدة لغات، بينها العربية والفرنسية، وهو متدين تقليدي.
وحسب المقال، تم استدعاء كوهين عام 2013 ليكون مستشار نتنياهو للأمن القومي، قبل أن يتم دفعه إلى رئاسة الموساد، ويقول ديفد القيم (David Elkaïm) -وهو محلل في مركز أبحاث المخابرات الفرنسية ومؤلف كتاب “تاريخ حروب إسرائيل”- إن قرب كوهين من نتنياهو يسهل الأشياء.
ويضيف خبير إسرائيلي أن “لدى كوهين خلفية استثنائية تؤهله بشكل خاص للعبة الشطرنج التي نؤديها مع إيران”.
عمليات “أكثر جرأة”
“عاد وقت العمليات الأكثر جرأة” علما أن الموساد لم يتوقف أبدا عن أنشطته السرية منذ تأسيسه عام 1949 -كما يقول الكاتب- مستشهدا باغتيال عالم فلسطيني في ماليزيا في أبريل/نيسان 2018 وبمساعدة المصريين سرا في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية بصحراء سيناء.
ويرى الكاتب أن “معهد الاستخبارات والشؤون الخاصة” (اسم الموساد الكامل) نال كثيرا من الألق حتى اعتبر إحدى وكالات الاستخبارات الأكثر فاعلية ورهبة في العالم.
ويضيف الكاتب أن الموساد بنى سمعته بقبضه في الأرجنتين على النازي السابق أدولف إيخمان عام 1960، ثم تعقب المسؤولين عن مقتل الرياضيين الإسرائيليين في أولمبياد ميونيخ عام 1972، ليشتهر بعد ذلك بأنه الأكثر إقداما وإصرارا على تتبع أعدائه.
ولكن الكاتب يعود لينقل عن ضابط مخابرات إسرائيلي أن “هذه الصورة مبالغ فيها، لأن الموساد قد عانى أيضا من الكثير من الإخفاقات، وإن كان الترويج لبعض أعماله ساهم في شكل من أشكال الردع وسمح له بإظهار قوته”.
وعلى الرغم من سمعة جهاز الموساد فإنه بدا خلال العشريتين الأخيرتين أخرق ومثيرا للجدل، ففي سبتمبر/أيلول 1997 تم اعتقال اثنين من عملائه في الأردن بعد تسميم رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الفلسطينية حماس خالد مشعل، مما أثار أزمة دبلوماسية بين إسرائيل والأردن واضطر نتنياهو لإرسال الترياق على وجه السرعة إلى العاصمة الأردنية عمان لإنقاذ حياة مشعل، وإقالة رئيس الجهاز.
فشل كبير في دبي
وعند تعيين الجنرال مئير داغان على رأس الموساد في عام 2002 حاول إعادة ترتيب البيت، خاصة أنه أراد خدمة رئيس الوزراء حينها أرييل شارون في وقت كانت فيه العمليات الاستشهادية تضرب إسرائيل.
ولكن داغان -الذي كان يؤيد “الاغتيال المستهدف” وغيره من الأعمال الهجومية- تعثر في أعقاب عملية كبيرة في فبراير/شباط 2010 في دبي حين كشفت كاميرات المراقبة التابعة لأحد الفنادق جواسيس إسرائيل المزودين بوثائق مزورة بعد قتلهم محمود المبحوح أحد قادة حماس.
ولم يوافق داغان أواخر عام 2010 على اقتراح نتنياهو إطلاق عملية “المياه العميقة” التي تعني القصف الجوي المكثف للمنشآت النووية الإيرانية التي وصفها بعد تقاعده بأنها “المشروع الأكثر غباء الذي سمعته”.
مسؤول العمليات السرية
وبحسب الكاتب، لم يكن تامير باردو -الذي خلف داغان على رأس الموساد عام 2011- يختلف عنه كثيرا، فعلى الرغم من أن صلب عمله يكمن في عرقلة المشاريع النووية الإيرانية فإنه كان يعارض الحرب معها لاعتقاده أنها ستصبح خارج السيطرة.
ويرى باردو أن الصراع الذي لم يحل مع الفلسطينيين يشكل تهديدا على إسرائيل أكثر خطورة من إيران، ولذلك لم يتحمل نتنياهو التعايش معه وجاء في نهاية 2015 برجل الثقة يوسي كوهين.
وقال الكاتب إن القادة الإسرائيليين الذين تمتلك بلادهم السلاح النووي منذ أواخر الستينيات لا يمكن أن يسمحوا لأي دولة أخرى في المنطقة بالوصول إلى هذه الترسانة، وقد دمروا مفاعل تموز العراقي عام 1981، وفي سبتمبر/أيلول 2007 قصفوا مفاعلا بسوريا، ولذلك كان نتنياهو يشعر بأن كوهين سيكون له ظهيرا ضد إيران، خاصة أنه قاد في السابق عمليات ضدها.
أما فيما يتعلق بإيران فإن إسرائيل تستخدم كل الوسائل من توظيف المصادر للمساعدة في انشقاق العلماء والعسكريين الإيرانيين إلى التحالف مع الدول العربية المعادية لإيران، وتخريب المعدات والتنصت والاعتراض الإلكتروني.
ويمزج الموساد بقيادة كوهين -كما يقول الكاتب- بين “الاستخبارات البشرية” والاستخبارات الإلكترونية ليصل إلى معلومات استخباراتية قيمة من مسؤولي حزب الله في لبنان والحرس الثوري في طهران.
هجمات سيبرانية وتفجيرات
وقال كاتب التحقيق إن كوهين -الذي عين عام 2004 قائدا لعمليات الموساد ضد إيران المسماة (خطة دانيال)- تمكنت فرقه من فك تشفير بعض اتصالات الحكومة الإيرانية، كما طور بمساعدة من وكالة الأمن القومي الأميركية فيروساإلكترونيا قويا أطلق عليه “ستكسنيت”، ليعطل تشغيل آلاف أجهزة الطرد المركزي في محطة نطنز للطاقة النووية الإيرانية التي تخصب اليورانيوم كي يتأخر البرنامج الإيراني لسنوات عدة.
”
يقول كاتب التحقيق إن الإيرانيين في هذه الحرب لم يبقوا مكتوفي الأيدي، فلديهم مكتب للتجسس المضاد لحماية الأنشطة النووية ووكالة استخبارات ظلا بالمرصاد لعملاء الموساد
”
ولم يكتف الموساد -حسب التحقيق- بالأسلحة الإلكترونية، بل إن انفجارات غامضة دمرت طائرات تقل ضباطا إيرانيين، وبموافقة رئيس الوزراء حينها إيهود أولمرت ثم نتنياهو بعد 2009، وتضاعفت عمليات الاغتيال المستهدف التي مارستها إسرائيل منذ فترة طويلة ضد فلسطينيين وعراقيين وسوريين ولبنانيين وإيرانيين، حسب الصحفي رونين بيرغمان مؤلف أحد الكتب المرجعية بشأن الموضوع.
وقال بيرغمان إن إسرائيل قتلت عددا من الناس أكثر من أي دولة غربية أخرى منذ عام 1945، إذ تمكن الموساد 2008 بدعم من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي) من قتل رئيس الفرع العسكري لحزب الله اللبناني في دمشق عماد مغنية بزرع قنبلة تم التحكم فيها عن بعد في سيارته، وأعدم الجنرال سليمان المسؤول السوري الكبير الذي أشرف على الأنشطة النووية في بلاده بالقرب من ميناء طرطوس.
وقد وضع الموساد عام 2009 قائمة تضم حوالي 15 عالما ومسؤولا في البرنامج النووي الإيراني ينوي تصفيتهم، وقتل وهو عالم الفيزياء الشهير مسعود علي محمدي في طهران بعد انفجار دراجة نارية، وبعد بضعة أشهر ألصق سائقو دراجات نارية مجهولين قنابل مغناطيسية على سيارات اثنين من الخبراء النوويين الإيرانيين.
كما قتل -حسب التحقيق- علماء وجنود آخرون في يوليو/تموز ونوفمبر/تشرين الثاني 2011، وفي يناير/كانون الثاني 2012، وفي أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2013، كما قتل أيضا مهندسون روسيون في حادث تحطم طائرة في يونيو/حزيران 2011 عندما قدموا لإصلاح أجهزة الطرد المركزي في نطنز، وفي كل مرة يتهم الموساد دون أن يتبنى ذلك أو تعترف الحكومة الإسرائيلية به.
سرقة الوثائق في طهران
ومع استئناف الأعمال السرية يتسلل جواسيس الموساد في ليلة من يناير/كانون الثاني 2018 إلى مستودع بجنوب طهران لسرقة أكثر من خمسين ألف صفحة من الوثائق وما يقارب مئتي قرص مضغوط من الأرشيف النووي الإيراني.
وقد افتخر نتنياهو بهذه العملية في خطاب تلفزيوني لإقناع الرأي العام الدولي بأن إيران لم تتوقف عن الكذب بشأن برنامجها النووي، وذلك قبيل إعلان ترامب خروجه من اتفاق الملف النووي.
تلاعب رجال الأعمال
في المقابل -يقول كاتب التحقيق- إن الإيرانيين في هذه الحرب لم يبقوا مكتوفي الأيدي، فلديهم مكتب للتجسس المضاد لحماية الأنشطة النووية ووكالة استخبارات ظلا بالمرصاد لعملاء الموساد، وضرب مثالا برصدهما لرجل يدعى علي أشتاري جنده الموساد من مقر عمله في دبي، وألقي القبض عليه في إيران وشنق هناك.
وزعم التحقيق أن المخابرات الإيرانية استغلت رجال أعمال يعملون لصالحها في إسرائيل، كما نظمت اغتيالات ضد دبلوماسيين إسرائيليين في الهند وتايلند، حسب التحقيق.
وقال التحقيق إن شعبة القدس ووحدة النخبة في الباسدران (الحرس الثوري) تجري معظم عملياتها السرية في الخارج تحت قيادة الجنرال قاسم سليماني الذي وصفه بصاحب القبضة الحديدية والمقرب من المرشد الأعلى علي خامنئي، وقال إنه يخيف الموساد.
وبحسب كاتب التحقيق، فإن الموساد لا يزال يأسف على عدم قتل سليمان عندما شاهدوه في دمشق مع عماد مغنية، مضيفا أن سليماني هو منسق شحنات الأسلحة إلى حلفاء إيران في المنطقة، مثل حزب الله في لبنان وحماس والجهاد