الأقصى واستراتيجية التغييب في التقرير الاسترالي

الأقصى واستراتيجية التغييب في التقرير الاسترالي

لم يكن مستغرباً على صعيد الإطار الفكري والمعرفي أن تظل السياسة هي أكثر الفاعليات الإنسانية بؤساً وشقاءً، لكن على العكس من ذلك؛ صار مستغرباً في رؤية الشعوب المعاصرة على جملتها أن يظل طابع السياسة ثابتاً مستمسكاً بقيم التصارع والاستحواذ والنفعية على رغم التصاعد الدائم في الوضعية الحضارية. ولعل هذه الرؤية إنما تنطلق من تجاهل الشعوب لفكرة محورية، وهي إن كانت وستظل هي الضحية الأولى للمعترك السياسى منذ أن كان وإلى أن يظل.

وليس أدلَّ على ذلك من تلك النسب والإحصاءات التي أشار إليها تقرير المعهد الاسترالي للاقتصاديات والسلام حول مؤشرات تراجع المعدلات المخيفة للعمليات الإرهابية حول العالم، مؤكداً انخفاض أعداد ضحايا الإرهاب خلال العام الماضي عما قبله ونسبة أكبر خلال السنوات الخمس الماضية، وتلك هي النتيجة التي يقدمها التقرير عن حوالى 46 دولة أجريت عليها المسوح من نحو 163 دولة شملها التقرير ورصد الحادث فيها. وأيضاً أشار إلى حقيقة مهمة مؤداها اختلال استراتيجية التنظيم «الداعشي»، نظراً إلى تراجع أعداد ضحاياه، وهو ما يعود إلى تراجع سطوته أمام طوفان هزائمه في العراق وسورية، لتصدى الجبهة المضادة بتكثيف الدعم لسحق التنظيم المختلق الذي قدم مشهداً مأساوياً عن الإسلام، بما يمنح الكثير من الأسباب لضرورة التواجه الصدامي معه، ويجدد ويصوب مسار الإساءة التاريخية الآتية من أوروبا والغرب بعامة إلى قلب الشرق العربي لأحقاب عدة. ولعل التقرير الاسترالي إنما يجنح نحو العنصرية السياسية والازدواجية في التقييم وعدم رد معطيات القضايا إلى روافدها الأساسية، مفتقداً بذلك الكثير من الأسس الموضوعية، إذ إنه أغفل الحديث عن ملحمة الإرهاب الصهيوني في الأراضي الفلسطينية، ولم يقف عند تساؤل حيوي: هل تراجعت تلك العمليات الإرهابية وتقلصت أعداد ضحاياها أم أنها في تزايد جنوني لحظي؟ هل هي مجرد عمليات عابرة أم أنها استهداف إستراتيجي لإبادة شعب وسرقة تاريخ وانتحال مقدسات؟ ولعل هذا التساؤل وغيره إنما يضع القضية في شكل كاريكاتيري هازئ، بمعنى أن ضحايا الإرهاب على مستوى معظم دول العالم في تناقص مستمر، وهو ما يعد دلالة إيجابية، لكنه لم يفسر – لأنه لا يستطع أن يفسر – كيف بلغت أعداد ضحايا الإرهاب الصهيوني أرقاماً قياسية تسجلها صفحات التاريخ

المعاصر.

وكذلك لم يطرح علينا أية طرائق لمواجهة تلك الاستراتيجية الدموية التي يتبناها الكيان الصهيوني منذ ستة عقود، وما كان لها من آثار وانعكاسات وخيمة على العالم العربي والاسلامي تجعل لحظات احتدام الصراع وشيكة ولن يكون معيار تكافؤ القوة هو الفيصل لأن للقوة ضروباً أخرى ربما تتجاوز القوة العسكرية أو حتى النووية.

فعلى سبيل التمثيل كم بلغت أعداد ضحايا الأقصى وحده جراء الاعتداءات المتوالية منذ نصف قرن؟ وهل يعد إخفاء تلك الأعداد ضمن مفردات الكهنوت السياسي؟ ولماذا لم يقتصر التقرير على دراسة المنطقة العربية رصداً وإحصاءً باعتبارها المستهدفة استراتيجياً من قبل الآلة الإرهابية؟ ولماذا لم يقدم التقرير شرحاً مستفيضاً يقارن بين أعداد ضحايا الإرهاب وبين غيرها من دول العالم وقاراته غير المستهدفة؟ ولماذا لم يحدد التقرير أسماء الكيانات الداعمة للعمل الإرهابي على الصعيد الدولي مع الكشف عن حجم مساهمة كل منها؟ وما البواعث المشتركة لدى كل تلك الكيانات لإشعال العالم بجحيم الإرهاب؟ ولماذا غاب التطابق بين الكلفة الفعلية للإرهاب في هذا التقرير وغيره من التقارير التي أصدرتها مؤسسات دولية وأميركية؟ وهل يعقل أن يشهد العالم نحو 170 ألف عملية منذ بدايات الألفية الثالثة؟ وما دلالات ذلك؟ إن الأقصى الآن يقتحم من جديد تحت ذريعة الاحتفاء بعيد الأنوار العبري، وسيقتحم مراراً بأسباب أخرى، وستتجاهل التقارير الدولية التي تصدر عن هيئات ومؤسسات ومراكز وأكاديميات ما يدور حول قضيته؛ ليس من حيث أعداد الضحايا والمصابين والمشردين فحسب، بل من حيث الحق الإنساني والكرامة التاريخية وإنصاف الهوان الحضاري والاعتبار الواثق بمبدأ تداول القوة والتفرد. لكن قبل كل هذا أو غيره لا بد أن تصبح حتمية الوجود الإسلامي هي الاستفاقة من غفوة الوعي وأزمة الروح وتوعكات الضمير الجمعي أو معايشة الطوفان.

محمد حسين أبو معلا

الحياة