ملأ نبأ سقوط مديني تدمر والرمادي الصحف بمزيد من القصص والصور التي تناولت عنف ووحشية تنظيم «داعش» الإرهابي. وقد شاهدنا مجدداً ما تسبب به هذا التنظيم من معاناة لا توصف وبؤس يفوق التصور في المناطق التي يحتلها، وغالبية المتضررين هم من المسلمين الذين يزعم «داعش» أنه يمثلهم.
لكن المكاسب التي حققها إرهابيو «داعش» مؤخراً لا تعكس الصورة كاملة. حيث كان ينظر البعض قبل ثمانية أشهر فقط إلى سقوط أربيل وحتى بغداد على أنه احتمال حقيقي. لكن اليوم تم استرداد ربع الأراضي التي يسيطر عليها «داعش» في العراق. وساعد العمل العسكري الموجه بدقة الذي ينفذه تحالف دولي يضم أكثر من 60 دولة في تحرير البلدتين المهمتين ربيعة وزمار. وساهمت جهودنا في كسر الحصار حول الايزيديين الذين كانوا محاصرين على جبل سنجار، إلى جانب إخراج «داعش» من كوباني (عين العرب) في سورية. كما استعادت قوات الأمن العراقية مدينة تكريت.
من السهل افتراض أنه كان باستطاعة التحالف، بما لديه من قوات عالية التدريب وقوة جوية متفوقة، دحر مقاتلي «داعش» إلى شمال نهري دجلة والفرات بعد كل هذه العمليات. إلا أن التحدي الذي أمامنا أوسع كثيراً من مجرد هزيمة «داعش» عسكرياً: علينا مكافحة أيديولوجيته العنيفة، وضمان أن تحل محله قوات محلية مدربة ومجهزة قادرة على ضمان استمرار الاستقرار بعد تحرير الأراضي من سيطرته.
من الواضح أنه ما زال هناك الكثير مما يجب عمله. وقد شاركت في الأسبوع الحالي مع وزير الخارجية البريطاني وغيره من وزراء خارجية التحالف الدولي في مؤتمر باريس الذي استعرض الجهود الدولية المبذولة لمساعدة العراق. وأجرينا تقييماً للمجالات الخمسة الأساسية التي يجب أن ينصب تركيز جهودنا عليها.
أولاً: يشارك التحالف في جهود عسكرية سعياً لهزيمة «داعش». هذا يشمل زيادة الدعم المقدم للقوات المحلية التي تتولى القتال ضده وهي قوات الأمن العراقية، والقوات الكردية، والمعارضة السورية المعتدلة – بتوفير التدريب لها وتزويدها بالمعدات غير الفتاكة. وهذا يعني أيضاً المشاركة مباشرة في العمليات العسكرية التي تلعب بريطانيا دوراً فاعلاً فيها، حيث نفذت حتى الآن ما يفوق 250 ضربة جوية ناجحة، وهي بذلك ثاني أكبر مساهم في الضربات الجوية التي توجهها قوات التحالف.
ثانياً: علينا مواجهة تمويل إرهابيي «داعش» من خلال منعهم من استغلال النظام المالي الدولي وتجفيف موارد تمويلهم، سواء كانت من الابتزاز، أو تهريب النفط، أو عمليات الخطف للمطالبة بدفع فدية، أو التمويل الخارجي، أو التجارة بالمواد الأثرية المنهوبة. وآثار كالتي في تدمر هي الرابط المجسم أمامنا الذي يربطنا بالأجيال السابقة، كل جيل يتعلم من الماضي وبالتالي يكون أكثر حكمة من الجيل الذي سبقه. يريد إرهابيو «داعش» الرجوع بالحياة إلى ما يتصورونه هم عن الماضي، ولا يترددون في بيع أو تدمير تراثنا المشترك الذي يربطنا بالتاريخ، بمهد الحضارة، مهد الرياضيات والعلوم والكتابة وحتى العجلة. وعلينا أن نبذل مساعينا، لأجل الأجيال القادمة، للحيلولة دون تدمير هذا التراث وحماية هذه الروابط الثمينة التي لا يمكن تعويضها التي تربطنا بأجيالنا السابقة.
ثالثاً: نكافح جهود تنظيم «داعش» لتجنيد المقاتلين الأجانب عن طريق كشف شبكات التجنيد التابعة للتنظيم، والتشجيع على تبادل المعلومات المتعلقة بطرق السفر التي يتبعها المجندون، وضمان أن يتبادل أعضاء التحالف المعلومات لمكافحة تدفق المقاتلين.
رابعاً: التحالف ملتزم بتوفير الدعم لأجل الاستقرار. علينا ضمان أن تكون القوات الوطنية قادرة ليس فقط على تحرير البلاد، بل أيضاً ضمان استدامة الاستقرار. هنالك حاجة لتوفير الخدمات الضرورية، والتخطيط المدني، وتأسيس الحكومة والشرطة المحلية في المناطق المحررة لضمان وصول الإغاثة إليها وتعافيها، لكي يكون أمام النازحين خيار العودة إلى بيوتهم بأمان. وفي هذه الأثناء، تقدم بريطانيا مبالغ كبيرة من المساعدات الإنسانية لملايين المتضررين من وحشية إرهابيي «داعش» والفوضى التي تسببوا بها. حيث هناك الآن 2.9 مليون نازح في مختلف أنحاء العراق. وتقدم بريطانيا 59.5 مليون جنيه استرليني من المساعدات لإغاثة المواطنين في أنحاء البلاد الذين فروا هروباً من «داعش».
كما تتصدر بريطانيا قائمة الدول التي استجابت إنسانياً للصراع في سورية. فهناك حالياً 7.6 مليون نازح داخل سورية إلى جانب 3.9 مليون لاجئ سوري في الدول المجاورة. وقد التزمنا بالفعل بتقديم 800 مليون جنيه استرليني من الدعم – وهذه أكبر استجابة إنسانية على الإطلاق تقدمها الحكومة البريطانية، وتشمل توفير المواد الغذائية والرعاية الطبية ومواد الإغاثة للمحتاجين للمساعدة في سورية والعراق وفي المنطقة. وبحلول نهاية عام 2014 كانت بريطانيا قد قدمت ما يفوق 8.7 مليون من الحصص الغذائية شهرياً، إلى جانب الماء النظيف لمليون ونصف المليون شخص شهرياً، وقدمت ما يزيد على 1.3 مليون استشارة طبية.
وأخيرا، هناك مجال الاتصالات الاستراتيجية. إذ يستعين تنظيم «داعش» بآلية دعائية هائلة. ويزعم أنه أسس دولة فعالة لكافة المسلمين السنّة. لكن الواقع على النقيض من ذلك تماماً. حيث أن سكان المناطق التي بقبضة «داعش» يواجهون الجوع وتقنين الكهرباء والعنف العشوائي. ويتدفق اللاجئون بأعداد كبيرة إلى المناطق المحيطة بتلك التي يسطر عليها التنظيم فراراً من الأهوال والرعب. إننا نؤكد هنا بوضوح: تنظيم «داعش» لا يمثل الإسلام. بل إنه تنظيم تطرف يتخفى بستار الدين لينفذ أعماله الوحشية البربرية المروعة ضد المسلمين وغير المسلمين على حد سواء.
خلال مؤتمر باريس أكد رئيس الوزراء العراقي أن جهود التحالف قد ساهمت بالفعل في إقصاء آلاف قيادات ومقاتلي «داعش» عن ساحات المعركة، وتدمير مواقعهم القتالية، وإتلاف مرافق النفط والغاز التي تحت سيطرتهم.
إلا أن هذه عملية طويلة الأجل. حيث أن هزيمة «داعش» وإرهابه وأيديولوجيته العنيفة تتطلب وقتاً طويلاً والتحلي بالصبر. والتحدي الذي أمامنا أكثر تعقيداً، حيث يحاول «داعش» استغلال جيوب عدم الاستقرار في أنحاء المنطقة. وكما يتبين من اعتداءات كتلك التي وقعت مؤخراً في باريس وتونس، يعتبر التطرف العنيف واحداً من أكبر التهديدات العالمية التي نواجهها في عصرنا. إلا أننا سوف ننجح، بالعمل مع الحكومة العراقية وبمساعدة كافة دول التحالف. ولا بد أن ننجح لأجل أمننا العالمي وإنسانيتنا المشتركة.
الحياة