التواجد الإيراني في سورية

التواجد الإيراني في سورية

بعد سنين من حرب طاحنة في سورية راح ضحيتها مئات الآلاف، تتجه الأوضاع الأمنية إلى هدوء نسبي بعد التقدم الميداني الكبير الذي أحرزته سورية الرسمية مدعومة من روسيا وإيران. التكلفة البشرية الباهظة وانهيار الأوضاع الاقتصادية يجعل المسائل الأمنية في سورية مرشحة للنكوص إذا لم تكن هناك حكمة في إدارة مرحلة ما بعد الحرب والابتعاد عن ذهنية المنتقم للطرف الذي انتصر. الانتقام سيولد عنفا جديدا قد لا يقل دموية عن سابقه، وسيعطي جرعة حياة للتنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش التي هزمت ولكنها لم تنته بعد.
لحسن الحظ، يبدو أن هناك إدراكا سوريا لضرورة إدارة مرحلة ما بعد الحرب بحكمة وبعيدا عن الانتقامية، لذلك فالتحدي الأكبر الذي يواجه سورية في المرحلة القادمة هو التواجد والتغول الإقليمي والدولي، وأخطره ذلك الإيراني الذي لن تسكت عنه وسيواجهه عديد من دول الإقليم، ما سيؤدي لتهديد الاستقرار في سورية ويبقيها ميدانا للتناحر الإقليمي. إيران لم تتعامل يوما مع حربها في سورية على أنها مساعدة لصديق، أو مواجهة للإرهاب، بل فرصة لمد نفوذها الإقليمي بالعمق السوري على نحو أن أي انسحاب شكلي أو تقليدي من سورية لن يؤثر على درجة النفوذ الإيراني هناك بما يحاكي تجارب إيران في العراق ولبنان.
قرار ترامب بالانسحاب من النزاع السوري كان متوقعا، ولن يمضي وقت طويل قبل أن تقدم روسيا على قرار شبيه، وقد بدأت بالفعل انسحابات متتالية لقواتها من سورية، وهو ما يبقي إيران الفاعل الميداني الخارجي الوحيد في سورية مع محدودية القدرات السورية على الوقوف بوجهه أو إنهائه، فسورية لم ترسخ بعد قدرات الوقوف الذاتي. انعدام التوازن الجيوسياسي في المشهد السوري سيكون له تداعيات عميقة ومستمرة على التوازن الإقليمي من الناحية الاستراتيجية ويزيد تعقيدات الشرق الأوسط السياسية والأمنية وعلى الأمن والاستقرار العالميين.
يد إيران في سورية انطلقت إلى حدود غير مسبوقة، ولن تستطيع سورية إدارة الظهر لوقفة إيران معها في حربها الوجودية الأخيرة، ولا هي حتى قادرة على ذلك إن رغبت، ولن تهتم روسيا بالوجود الإيراني في سورية كثيرا ما دامت دائرة مصالحها مصانة، وعليه فقد أصبحت سورية ساحة مفتوحة لإيران الخبيرة في الاستحواذ الناعم وغير المباشر على الدول وقراراتها. حتى لو اضطرت إيران للانسحاب تحت الضغوط من سورية فإنها لن تفعل قبل أن تترك من هم امتداد سياسي وعسكري لها، ومن سيعملون على تنفيذ الأجندات الإيرانية الإقليمية بإخلاص ودون تردد وهو ما سيجعل سورية شبيهة سياسيا بلبنان الذي يعلن حزب فيه ولاءه العلني وغير القابل للنقاش لإيران وتبعيته لها.
مصلحة الإقليم والعالم بسورية مستقرة ومستقلة بقرارها في آن معا، لا أن تكون أداة أو ميدانا لتنفيذ الأجندة الإيرانية، وعلى العالم وحاضنة سورية الإقليمية مساعدتها على ترسيخ ذلك.

الغد