أدى تزايد الاحتجاجات في السودان إلى وضع الرئيس عمر حسن البشير في موقف بالغ الحرج، تجاوز الأبعاد الداخلية بمراحل وحمل مكونات خارجية لافتة. هناك دول نأت بنفسها عنه، اعتقادا بأن النظام يقاوم السقوط، ورأت في الابتعاد عنه ميزة كبيرة، وزاد البعض بالتحريض عليه، وكأنهم تذكروا مقومات فشله فجأة، والتي كانت تصاحبه طوال السنوات الماضية. وبرع البعض من قبل في الدفاع عنه بهيئته الحالية، وتم مدّه بأنواع مختلفة من الدعم والتأييد، لأنه كان يتماشى مع مصالحهم السياسية وحقق لهم فوائد مادية.
وثمة دول التزمت الحياد الظاهر، لأن النتيجة النهائية لم تتضح بعد، فالتذبذب الذي يعاني منه النظام في مواجهة الأزمة الاقتصادية المحتدمة، جعل الصورة العامة مبهمة، ومن الصعوبة تقدير عواقبها، سلبا أو إيجابا. ويتبنى أنصار هذا المعسكر سياسة “مع وضد في آن واحد”، يدعمون البشير، ويقفون في صف التظاهرات وأحقية المواطنين في التعبير عن غضبهم، لتجنب الخسارة، حال فوز أحد الفريقين المتخاصمين.
وهناك فئة ثالثة من الدول لم تتخل عن النظام السوداني ليس حبا فيه أو حرصا على استمراره لفترة أخرى، لكن خوفا من شبح خيارات قاتمة، لن تسقط البشير من على سدة السلطة فقط، بل يمكن أن تجرف معها بعض الثوابت التي فهمتها وعرفت مفاتيحها وقبلت التعامل معها على مضض، ووفقا لضوابط ارتضتها، صراحة أو ضمنا.
الموقف المصري
تبدو مصر في مقدمة الدول الرافضة لسقوط النظام السوداني الحالي عبر انتفاضة شعبية هيأت الأزمة الاقتصادية والسياسية كل سبلها، وتتمنى القاهرة أن يحافظ البشير على قدر من تماسكه، بما يهيئ له فرصة الاستمرار أو انتقال السلطة إلى بديل مريح.
ولدى مصر أسبابها التاريخية التي تجعلها قلقة من مغبة التغيير المفاجئ في السودان، فعندما قامت ما يسمى بـ”ثورة الإنقاذ” عام 1989 كان البشير في زيارة للقاهرة. وجرى تسويقها على أنها ثورة وطنية تتألف من جميع القوى السياسية، ثم ظهر الوجه الإسلامي بعد ذلك، وتقدم البشير الصفوف، وعانت مصر كثيرا من تصرفات وتناقضات أقطاب الإنقاذ.
السودان يفتح أبوابه لخيارات قاتمة، كلها تحمل أضرارا بالغة لمصر، وهو ما جعلها تجد أن نظام البشير، بكل سيئاته، يعد حلا جيدا لها، لكنه أصبح مهددا بالرحيل
وليست القاهرة على استعداد الآن لمواجهة مفاجأة ثقيلة أخرى، في ظل بلوغ الانتفاضة مدى قد يفضي إلى سقوط البشير عنوة ومن خلال تدفق الحركة في شارع لا يملك قيادة واعية تستطيع إدارة فعالياته، والبلاد عرضة لدخول فوضى عارمة، مع تكلس أحزاب المعارضة وعدم جاهزيتها، وفقدان القوى المدنية للقدرة على الضبط، وانتشار التوترات في أماكن مختلفة.
وتقود هذه المكونات حتما إلى تفتيت السودان، ما تنعكس أضراره على دول الجوار، وفي مقدمتها مصر، التي تخشى الوصول إلى هذا المربع المريع، وحرصت طوال خلافاتها الكثيفة مع نظام البشير على تخفيف الضغوط لعدم الوصول إلى هذا الكابوس، الذي يقلب حدوثه بعض التوازنات الاستراتيجية التي تقوم عليها الدولة المصرية.
وخرج سيناريو انفصال جنوب السودان ضد إرادة القاهرة، وظلت تلفظه فترة طويلة، حتى اضطرت إلى الاستسلام له، وفقدت كل مناعة للحؤول دونه، وتقبلت نتيجته، ونسجت علاقات متينة مع الدولة الوليدة، التي دخلت حربا أهلية عقب فترة وجيزة من الحصول على الاستقلال، ما أدى إلى تغيير كبير في المعادلات التقليدية، لأن السودان لم يعد دولة واحدة.
وفي حالة اتساع نطاق التظاهرات الراهنة ووصولها إلى مرحلة تؤدي إلى سقوط النظام الحاكم دون ترتيبات سياسية وأمنية، سيكون السودان عرضة للمزيد من التمزق والتشرذم، وهو ما ترفضه قوى إقليمية كثيرة، حتى لو كانت تمنت تغيير النظام، فهي ترفض دخول البلاد في مصير مجهول.
وتعتقد بعض الدوائر المصرية أن نظام البشير انتهت صلاحيته السياسية منذ زمن، وجاء صموده أمام حزمة كبيرة من الرياح والعواصف، من خلال تعديل وتبديل الوجوه المنخرطة في السلطة والقريبة منها، على مستوى الحكومة والحزب والمؤسسة العسكرية، ونجح البشير في استثمار عقم المعارضة وتفسخ النخبة المدنية، وافتقاد الشارع للقيادة الرشيدة.
وتشير التوجهات المصرية الرسمية إلى قدرة فائقة على تقبل تقلبات النظام السوداني، ولم تتم محاسبته على حجم الأخطاء التي ارتكبها، وهذا لا يعني الوثوق فيه تماما، بل هي سياسة جرى اعتمادها كأداة لفرملة الخرطوم وعدم إمعانها في الممارسات المضرة بالمصالح المصرية، ومحاولة تخفيف الالتصاق بأجندات أيديولوجية تتبناها دول مثل تركيا وإيران وقطر.
وأثمرت هذه الطريقة (نسبيا) من زاوية عدم التمادي في عداء القاهرة، وربما لم تغلق الباب على مراوغات البشير، لكنها أبطأت من وتيرة سعي الأطراف المناوئة لاستهداف مصر عن طريق الخرطوم، وأوقفت عملية التمادي في تبني النظام لخطاب إسلامي لإيواء عناصر إرهابية ومتشددة بسهولة في الأراضي السودانية.
وكانت مصر واعية لهذه المسألة، وتدرك أن الخرطوم لن تعترف بها، لأنها متجذرة في القائمين على الحكم هناك، ووجدت أن الحوار والنقاش فضيلة لردع التصورات السلبية من هذا النوع، ومحاولة وقف الاحتكاكات المتعمدة بالليونة كوسيلة مناسبة لمنع تفجير قضايا تاريخية حساسة، مثل النزاع الحدودي حول مثلث حلايب وشلاتين وأبورماد.
دخول الإخوان على الخط
إذا كان مستقبل البشير أصبح خلفه تقريبا، على ضوء الكثير من المعطيات الحالية، فإن من يريدون وراثته كثّر، بينهم قوى على عداء عميق مع القاهرة، في مقدمتها جماعة الإخوان، التي بدأت تستعيد قدرا من عافيتها في السودان، وعلى قناعة بأن الفرصة تبدو جيدة لوراثة البشير، وتصدر المشهد بدلا من أن تظل قابعة وراء ستار، أو رقما ضمن أرقام الحركة الإسلامية الواسعة هناك.
وسيمثل الصعود والظهور المباشر للإخوان ضربة قوية لمصر، وينهي جميع محاولاتها على مدار السنوات السابقة لمنع تقدم هذه الورقة واحتلالها الواجهة، وقد تكون هذه المرة الوحيدة التي ترى فيها القاهرة بقاء البشير يمثل مكسبا سياسيا، لأنه إذا خرج من سيناريو الفوضى قد يتم خطف الحكم من جانب الإخوان المتربصين، وهي جماعة معروفة بأنها تملك أذرعا متشابكة في السودان.
إذا كان مستقبل البشير أصبح خلفه تقريبا، فإن من يريدون وراثته كثر، بينهم قوى على عداء عميق مع القاهرة، في مقدمتها جماعة الإخوان التي بدأت تستعيد قدرا من عافيتها
ويأتي تجاهل الإعلام المصري لأحداث السودان دليلا على دعم الخرطوم السياسي، أكثر من كونه خوفا من انتقال عدوى التظاهرات، ومؤشرا على عدم الرغبة للنفخ فيها، الأمر الذي يمثل مساندة معنوية للبشير ونظامه، وتأكيدا على المصالح المشتركة المتشعبة.
وفي هذه الحالة ستصبح مصر محاصرة بالجماعة، في قطاع غزة عبر حركة حماس التي تتحكم في مفاصله، وفي ليبيا التي تتم تهيئة الأجواء فيها لتكون الجماعة رقما رئيسيا، وأخيرا في السودان، ما يضطرها إلى تعديل موقفها منها، بما قد يصل إلى المصالحة معها اضطرارا.
ويفتح السودان أبوابه لخيارات قاتمة، كلها تحمل أضرارا بالغة لمصر، وهو ما جعلها تجد أن نظام البشير، بكل سيئاته، يعد حلا جيدا لها، لكن المشكلة أنه أصبح مهددا بالرحيل، ولا تملك القاهرة أدوات كافية لإنقاذه من أزمته الاقتصادية المستعصية.
وتتمنى أن تمر الأزمة المعقدة في السودان بسلام، من خلال انتقال سلس بمعرفة البشير نفسه، لأن السقوط سوف يكون مدويا، وجميع عناصر الطبقة الحاكمة مسؤولة عنه، ويمكن أن يجرفها الطوفان ما لم تستطع الوصول إلى صيغة تضمن مصالح الجميع، وتمنع حدوث انفجار يقلب حسابات السودان وبعض دول الجوار، وأبرزها مصر، التي باتت مضطرة إلى التفكير في الخطة “ب” المتعلقة بالخطوة التالية للمزيد من التقسيم في السودان.
العرب