رغم عشرات التقارير والوثائقيات التي سلطت الضوء على حال الموصل وأهلها الذين قضوا قرابة ثلاثة أعوام تحت حكم تنظيم الدولة الإسلامية، فإن الكثير من القصص ما زالت بعيدة عن وسائل الإعلام ولم يتطرق إليها أحد.
رياض محمد أحد الموصليين الذين لم يخرجوا من المدينة خلال سيطرة تنظيم الدولة عليها (2014-2017)، يقول للجزيرة نت إن ما عاشه الموصليون من مآس وأحزان يمكن أن يترجم إلى مسلسل درامي في أجزاء عدة.
محمد الذي كان موظفا في مؤسسات الدولة اضطر إلى بيع ما لدى زوجته من مصوغات ذهبية وأثاث عقب قطع الحكومة الرواتب عن أهل الموصل بعد قرابة عام على حكم التنظيم.
ومع اقتراب المعركة من مدينة الموصل القديمة التي يسكن فيها، بدأت معاناة أخرى لمحمد، إذ أنه اعتاش وعائلته على شوربة الحنطة التي كانت مخزنة لدى بعض جيرانه.
وعن تكيف الموصليون مع وضعهم، أشار محمد إلى أنهم كانوا مجبرين على تنفيذ جميع أوامر التنظيم، فلا مفر من ذلك، ومن يخالف يعاقب بأشد العقوبات.
ووصف محمد الوضع بأنه كان مأساويا وكان يموت في اليوم ألف مرة، خاصة عند محاولتهم الوصول إلى شاطئ نهر دجلة للحصول على لترات من مياه النهر للشرب، إذ يشير إلى أنه شهد مقتل العشرات من جيرانه بسبب القصف أو إعدام التنظيم لهم أثناء فرارهم من المعارك.
وفي فصل الشتاء عام 2016، اضطر محمد ومن معه إلى حرق الأخشاب وما تبقى لديهم من أثاث للتدفئة بعد بدء العمليات العسكرية لاستعادة الجانب الأيمن من الموصل من قبضة تنظيم الدولة.
شلل اقتصادي
قصة أخرى، أسامة حسين أحد التجار في الموصل، كان يملك محلا لبيع الألبسة في منطقة السرجخانة التجارية في الجانب الأيمن من المدينة، يقول للجزيرة نت إن الحركة الاقتصادية أصيبت بالشلل إبان حكم التنظيم.
وأشار إلى أنه اعتاش خلال تلك الفترة على ما كان يملك من رأس مال، وأنه خسر كل شيء بعيد استعادة الموصل، فمحله نهبه مقاتلو التنظيم بعد استعادة القوات العراقية الجانب الأيسر من المدينة الذي كان يقيم فيه.
وأضاف أنه تحول من صاحب محل إلى عامل، بعد أن تعرض محله للقصف إبان العمليات العسكرية، فضلا عن أن منطقة السرجخانة ما زالت مهجورة من سكانها وتجارها.
إعدامات بالجملة نفذها مقاتلو التنظيم في الطرقات والساحات العامة، وكان المقاتلون يجبرون سكان المدينة (صغيرهم وكبيرهم)على مشاهدة تلك الإعدامات عن قرب، بحسب أسامة.
دوافع المبايعة
وفي المقابل تحدث أحد المناصرين لتنظيم الدولة، مشترطا عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية- قائلا إنه بايع التنظيم بعد عام على سيطرته على المدينة، وإن فقره وعدم حصوله على أي عمل، دفعه للمبايعة، فالتنظيم كان يوزع مواد غذائية ووقود على مقاتليه مجانا.
ورغم أنه فرّ من العراق بعد استعادة القوات العراقية المدينة، فإنه يقول إنه لم يكن لديه أي باب آخر يطرقه للعيش. وأشار إلى أنه لم يستطع الخروج من التنظيم بعد مبايعته له، فانشقاقه أو محاولته ذلك كان يعني الإعدام، حسب قوله.
مطاردة وتخفي
الصحفيون بدورهم لم يسلموا من ملاحقات التنظيم منذ اليوم الأول لسيطرته على الموصل خوفا من تسريبهم أخبار المدينة، علي رافع صحفي اضطر للاختباء ما يقرب من ثلاث سنوات.
رافع الذي فشل أكثر من مرة في الخروج من الموصل، يقول للجزيرة نت إنه أجبر على تغيير سكنه مرات عدة بعد أن دهم التنظيم منزله في حي الشفاء في الأشهر الأولى لسيطرته على الموصل.
ورغم نجاة رافع من مقاتلي التنظيم، فإنه كان يتمنى الموت في كل لحظة، ويصف الوضع بسجن اختياري ومرحلة بين الحياة والموت، بعد أن توقفت عقارب الساعة في الموصل عن الدوران.
وعن كيفية قضائه طيلة تلك الأشهر متخفيا، أشار رافع إلى أنه كان يقضي وقته بالقراءة ومتابعة آخر مستجدات المعارك ضد التنظيم، مشيرا إلى أن أكثر من أربعة صحفيين من زملائه قتلوا على يد التنظيم.
التاريخ يتكلم
المؤرخ وأستاذ التاريخ في جامعة الموصل الدكتور أحمد قاسم الجمعة أشار إلى أن فترة سيطرة التنظيم على الموصل كانت حقبة مظلمة في تاريخ المدينة، وأن أهلها عاشوا في ظل حرب وفقر مدقع وعوز لم يشهدوه من قبل. الجمعة أوضح أن منع التنظيم للموصليين من الخروج من المدينة زاد من معاناتهم.
وعن حالات مشابهة عايشتها الموصل عبر تاريخها، تحدث الجمعة عن حصار المغول للمدينة مدة عام كامل في عام 660 للهجرة، صمدت حينها ولم تستلم، إلا أن الموصليين اضطروا حينها لأكل القطط والحيوانات السائبة بسبب الحصار.
وعن أقرب حدث تاريخي مشابه عايشته الموصل، أشار الجمعة إلى حصار نادر شاه للمدينة 41 يوما عام 1156 للهجرة (1746 للميلاد)، استطاع الموصليون وقتها الصمود، ولم يسلموا المدينة رغم ما عاشوه من حصار وفقر.
وختم الجمعة حديثه للجزيرة نت بالقول إن موقع الموصل الإستراتيجي جعل منها منطقة صراع على مر العصور.
الجزيرة