إقرار بريطانيا بأن الرئيس بشار الأسد باق في السلطة هو انعكاس لتغيّر ملموس في المزاج الدولي حيال الوضع في سوريا، مهد له الرئيس الأميركي حينما أعلن عن قراره بسحب قواته من هذا البلد الذي يبدو في أعين دونالد ترامب مجرد “رمل وموت”.
دمشق – قال وزير الخارجية البريطاني جيريمي هنت الخميس إن الرئيس السوري بشار الأسد “للأسف” سيبقى “لبعض الوقت”، يأتي هذا التسليم بعد ساعات من تصريحات لافتة للرئيس الأميركي دونالد ترامب أقرّ فيها بأن بلاده خسرت سوريا منذ فترة طويلة، في إشارة إلى فترة إدارة سلفه باراك أوباما.
وأوضح هنت لقناة “سكاي نيوز” أن “موقف بريطانيا الثابت منذ وقت طويل هو أننا لن نحظى بسلام دائم في سوريا مع هذا النظام (الذي يقوده الأسد)، لكن للأسف، نعتقد أنه سيبقى لبعض الوقت”.
ومع مرور ثماني سنوات على بدء الحرب التي قتلت الآلاف وشرّدت الملايين في سوريا، استعاد الأسد السيطرة على معظم أنحاء البلاد بفضل التدخل الروسي المباشر في العام 2015، الذي قلب موازين الصراع بشكل جذري.
ويرى مراقبون أن تصريحات الوزير البريطاني وقبله الرئيس الأميركي تعكس تغيّرا واضحا في المزاج الغربي، حيال الوضع في سوريا وهناك إقرار بأن بقاء الأسد أصبح أمرا مسلما به وأن استمرار الصراع بات عبثيّا فضلا عن كلفته الباهظة، وتداعياته الكارثية على دول المنطقة. وحتى إسرائيل نفسها، على خلاف ما يظهر مسؤولوها، ترى أنه من الصالح إنهاء الأزمة وتضغط بأن يكون الانسحاب الإيراني أحد تمظهرات هذه النهاية.
وكرّر ترامب الأربعاء عزمه سحب قوات بلاده من سوريا التي وصفها بأنها عبارة عن “رمل وموت”، إلا أنه تجنّب تحديد موعد لهذا الانسحاب، في ظل ضغوط قوية تطالبه بانسحاب بطيء.
وقال الرئيس الأميركي خلال اجتماع مع فريقه الحكومي في البيت الأبيض “لقد قُضي الأمر في سوريا منذ زمن طويل. وإضافة إلى ذلك نحن نتكلم عن رمل وموت. هذا ما نتكلم عنه. نحن لا نتكلم عن ثروات كبيرة”.
وأضاف “أنا لا أريد البقاء في سوريا إلى الأبد. إنها صحراء قاحلة”.
وبعيدا عن مدى صوابية توصيف ترامب لسوريا بالصحراء القاحلة فإنّ محللين يرون أنه محق لجهة خسارة الولايات المتحدة للمعركة هناك، لا بل إن البعض يتساءل هل خاضت فعلا واشنطن معركة في ذلك البلد؟
ومنذ اندلاع الأزمة في العام 2011، لم تظهر إدارة باراك أوباما آنذاك أي جدية في الإطاحة بنظام الأسد، وكان التركيز منصبّا على الحرب على تنظيم داعش، وتعزيز قدرات حلفائهم الأكراد في شمال شرق البلاد.
وشكّل تدخّل روسيا المباشر في الساحة السورية قبل أكثر من ثلاث سنوات مستغلة التردد الأميركي منعطفا حاسما في الصراع، الذي كان يصبّ في صالح قوى المعارضة المسلحة، حيث تمكّنت الأخيرة من السيطرة على مناطق واسعة قبل أن يستعيدها النظام، لينحصر وجود الفصائل اليوم في محافظة إدلب شمال غرب البلاد وبعض أجزاء ريفي حماة وحلب، وتخوض هذه الفصائل حاليا معركة نفوذ في ما بينها من شأنها أن تزيد من إنهاكها.
وسبق وأن تعهد ترامب في حملته الانتخابية بسحب قوات بلاده من سوريا، وبدا بإعلانه في 19 ديسمبر تنفيذ هذا الهدف يريد إيصال رسالة للجمهور الأميركي بأنه على وعده، إلا أن قراره استفز الحلفاء، خاصة وأن الأهداف التي على أساسها تمّ إرسال القوات لم تتحقق، فرغم الضربات القاصمة التي تلقاها داعش بيد أنه ما يزال يشكّل خطرا، والنقطة الأهمّ هو الوجود الإيراني الذي من شأنه أن يستغل الفراغ للتمدد أكثر في سوريا، فضلا عن التهديد التركي باجتياح شمال البلاد.
وأثمرت هذه الضغوط على ما يبدو تراجعا في موقف ترامب لجهة عدم تسريع الانسحاب وكرّر الأربعاء تأكيده على أن تنفيذ هذه الخطوة يحتاج للمزيد من الوقت.
وقال ترامب أنا لم أقل أبدا أننا سننسحب بين ليلة وضحايا”. ويتمركز نحو ألفي جندي أميركي في شمال سوريا غالبيتهم من القوات الخاصة التي تدرب قوات محلية من الأكراد بشكل خاص على قتال تنظيم الدولة الإسلامية.
وكان العديد من المسؤولين الأميركيين حذّروا من مغبّة الانسحاب بشكل سريع من سوريا، ما سيتيح خاصة لروسيا وإيران التفرّد في هذا البلد، ويفتح المجال لتركيا لاستهداف وحدات حماية الشعب الكردي.
وتعتبر تركيا الوحدات فرعا للحركة الانفصالية الكردية في أراضيها وتهدد بشنّ هجوم على هذا الفصيل مما أثار مخاوف من وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين.
وقال مسؤولون إن القادة الأميركيين الذين يخططون لانسحاب القوات من سوريا يوصون بالسماح لمقاتلي الوحدات الاحتفاظ بالأسلحة التي قدّمتها لهم واشنطن.
ومن المرجّح أن يثير الاقتراح غضب تركيا التي سيجري جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي محادثات مع مسؤوليها هذا الأسبوع. وصرّح ترامب أنه ليس سعيدا لأن الأكراد يبيعون النفط لإيران لكنه يريد حمايتهم في كل الأحوال. وأضاف “نريد حماية الأكراد بالرغم من ذلك. نريد حمايتهم لكنني لا أرغب في البقاء في سوريا. إنها صحراء قاحلة”.
ويرى مراقبون أن الموقف الأميركي من شأنه أن ينعكس على مواقف باقي الدول التي كانت لوقت قريب تطالب برحيل الأسد.
وبدأ هذا التأثير يظهر بشكل جليّ وهو ما عبّر عنه تصريح وزير الخارجية البريطاني، وقبله ظهور ملامح استدارة عربية، ترجمت في الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس السوداني عمر البشير الشهر الماضي إلى دمشق ولقائه الأسد، تلتها خطوات كانت أبرزها فتح الإمارات سفارتها مجددا في العاصمة السورية، وتأكيد البحرين على استمرار علاقتها مع دمشق.
وينتظر أن يقوم الرئيس الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز في الأيام المقبلة بزيارة إلى سوريا. ويرى متابعون أن هذا التغير الذي تشهده الساحة السورية، والذي يرجّح أن تتسارع وتيرته في الأشهر القليلة المقبلة قد يسفر عن تسوية سياسية تنهي أزمة لم تبق تداعياتها حبيسة الجغرافية السورية بل طالت كل المنطقة والعالم بأسره، حينما فتحت الباب أمام عودة قوية لروسيا للمسرح الدولي.
العرب