التوقُّع الأول الذي يرِدُ، عقب قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من سوريا، أنَّ الفراغ الذي سيتركه الانسحابُ الأمريكي، سيكون لصالح روسيا وإيران، لمزيد من النفوذ لهما، على اعتبار أنهما متقاربتان، في مقابل أمريكا وإسرائيل، لكن الناظر في طبيعة العلاقات التي تربط ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، (حيث بدا ترامب أقرب إلى روسيا من حلفاء أمريكا التقليديِّين في أوروبا) قد يَخْرُج بنتيجة مغايرة، يعزِّزها حرصُ روسيا على مصالحها، أولا، في حال حدوث تعارض عميق في المصالح والأهداف مع إيران.
فضلا عن كون الانسحاب الأمريكي من سوريا، ولو لم يكن تامًّا، يُضعِف، مِن شرعيَّة القوَّات الأجنبية الأخرى، ومنها إيران وحزب الله، ولاسيَّما بعد تراجُع خطر تنظيم «داعش»، واستعادة النظام لمزيد من المناطق من أيدي القوى الثورية المعارضة. وتاريخيا، لم تكن العلاقات الإيرانية الروسية، قائمة على الثقة، بل إنها حفلت بالحروب والصراعات، منذ روسيا القيصرية. ولم يُعْهَد على روسيا، حتى أيام الاتحاد السوفييتي، الوفاء بتحالفات متينة. وكان الرئيس الروسي بوتين قد لمّح إلى انسحاب إيران من سوريا، ولاقى ذلك صدى غاضبا في أوساط سياسية في طهران، إذ أشارت صحيفة «الموند» الإسبانية في يونيو/حزيران من العام الفائت، إلى أن بعض وسائل الإعلام والشخصيات الإيرانية تحدّثت عن هيمنة المصالح الروسية على مشروع إعادة إعمار سوريا، حيث أشار موقع «تبناك» الموالي للقائد السابق لحرس الثورة الإسلامية، محسن رضائي، إلى إنه «تم استبعاد الشركات الإيرانية بشكل جزئي من عملية إعادة الأعمار والاستثمار في سوريا، بناء على اتفاق بين القيادة الروسية والسورية، كما برز العديد من الأصوات في إيران المنادية بضرورة الحصول على تعويضات على الأموال التي دعمت بها طهران الأسد، والأرواح الإيرانية التي أزهقت في الحرب السورية. كما أشار المركز الفرنسي للبحث الاستخباراتي، أواخر الشهر الماضي، إلى أن مظاهر تفاقُم الخلاف الروسي الإيراني وصلت إلى مطالبة بوتين رسميا، عن طريق ممثِّله الرسمي في سوريا ألكسندر لافرينتيف بمغادرة جميع القوات الأجنبية من البلاد، بمن فيهم الأمريكيون وحلفاؤهم والأتراك، وأيضا المليشيات الشيعية الأجنبية (الباكستانية والأفغانية والعراقية واللبنانية).
وظهر التعارض الروسي الإيراني، جليًّا، في الموقف من الحضور الإسرائيلي في الأجواء السورية، وتتابُع استهداف إسرائيل للقوات الإيرانية ولحزب الله؛ من أجل منع تموضع إيراني في سوريا، ولمنع حزب الله من الحصول على سلاح كاسر للتوازن. ويرجِّح الموقفُ الروسي الأخير من الغارات التي شنَّتها إسرائيل على سوريا، مؤخرا، ثباتَ التعاطي الروسي مع استهداف دولة الاحتلال لوجود إيران وحزب الله في سوريا، إذ لفتت جميع قنوات التلفزيون الإسرائيلية، الأنظار إلى حقيقة أن روسيا لم تعمد إلى استخدام منظومات الدفاع الجوية المتطورة التي تملكها في سوريا «أس 400» أو تلك التي زودت بها جيش نظام بشار الأسد من طراز «إس 300»، التي يقوم بتشغيلها خبراء روس، في اعتراض الطائرات الإسرائيلية المهاجمة، على الرغم من أن إسرائيل أبلغت الجيش الروسي مسبقاً بأنها ستنفذ غارات في عمق الأراضي السورية. كما ذهب بعض المحللين الإسرائيليين إلى أنه على الرغم من «القطيعة» التي يفرضها بوتين على نتنياهو، ورفضه عقد لقاء معه، إلا أنه يمكن القول إن الرئيس الروسي معنيٌّ بالعمليات الإسرائيلية؛ من أجل تسهيل مهمة إخراج القوات الإيرانية من سوريا. وإذا ثبتت الأخبار التي تتحدّث عن تفاهمات عربية أمريكية إسرائيلية، مقابل روسيا، تتضمن كبح روسيا لجماح إيران وحزب الله في سوريا؛ فإن الضرر واقع على نفوذ إيران في سوريا. هذا، ولم تعدم الأراضي السورية، بعد زيادة النفوذ الروسي، وانخراطها المباشر، خلافات بين موسكو وطهران. كما قد تؤشِّر إلى ذلك، على الأرض، الخلافاتُ الإيرانية السورية التي وقعت مؤخَّرا، في القامشلي، والتي وُصِفت بالعميقة، بعد توسيع القوات الإيرانية سيطرتها المطلقة على أغلب المناطق الحساسة في محافظة دير الزور وريفها الجنوبي الشرقي، وفق ما ذكرته شبكة «زمان الحدث»، حيث استدعت النزاعاتُ تدخُّلَ وسطاء من العاصمة السورية دمشق؛ لمنع توسع المشكلة، وتحوُّلها إلى عمل عسكري بين الجانبين.
لن يكون بمقدور الأسد أن يُغلِّب اعتبارات الممانعة والمقاومة ويحارب من أجل نفوذ إيراني أكبر
وكانت القناة العاشرة الإسرائيلية قد نقلت أواخر الشهر الماضي، ما كشفه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، أنَّ روسيا عرضت مؤخَّرا على الولايات المتحدة وإسرائيل، سحب القوات الإيرانية من سوريا، مقابل تخفيف العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.
وغنيٌّ عن البيان أنه في ظلّ التغيُّرات الدولية، وعلى أرضية التفاوت بين القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في سوريا والمنطقة، عموما، سيُترجَم ذلك النفوذ الفعلي، بحسب قوة كلِّ طرف، ومن جهة أخرى لن يكون بمقدور الأسد أن يكون بتلك المبدئية المثالية، ولا بمقدوره أن يُغلِّب اعتبارات (الممانعة والمقاومة) ويحارب من أجل نفوذ إيراني أكبر، في وقت أصبح فيه وجودُه أكثر ارتهانا بالقبول الدولي، والروسي، ولا يستطيع، وحده، أن يمضي إلى النهاية في معاندة الاشتراطات الإسرائيلية، المُوافَق عليها، مبدئيا، من الحليف الأوَّل والأهمّ له، وهو روسيا، وليست إدارة ترامب بالتي تتخلَّى- وإن تخلّت عن الحليف الكردي- عن حليفها الإستراتيجي، مع دولة الاحتلال، ولا بالتي تقبل بأيّ أوضاع تُفضي إلى تعريض أمنها لاحتمالات الخطر.
وروسيا الفائزة بنفوذ تاريخي في سوريا، يمكِّنها من الوصول إلى المياه الدافئة، وإلى قلب المنطقة العربية، تدرك التوازنات الضرورية، ومتطلَّبات هذا الدور، وفي مقدِّمتها الحفاظ على أمن إسرائيل، ومراعاة مصالح دول خليجية تستعدّ لبذل الأثمان؛ من أجل كبح النفوذ الإيراني والحيلولة دون نصرٍ حاسم لإيران.
القدس العربي