كان نهر النيل اليوم الأربعاء في الخرطوم فاصلا بين الموكب المنادي بتنحي الرئيس عمر البشير والمسيرة المؤيدة لبقائه، ومن على ضفتيه علت الهتافات بغايات متناقضة، وكان الجند نفس الجند ولكن بتفويضين.
مشهدان متنافران أولهما لمسيرة تأييد للبشير في الساحة الخضراء بالخرطوم مهدت لها السلطات الطريق والحماية وأعدت لها وسائل النقل، والثاني لموكب مناوئ وضعت أمامه المتاريس وتسرب مناصروه من مدن الخرطوم خشية المنع.
مسيرة سلام السودان التي نظمت تحت لافتة قوى الحوار الوطني منذ الصباح الباكر، منحت تصريحا من السلطات الأمنية باسم حزب المؤتمر الوطني، صاحب الأغلبية الحاكمة.
لكن موكب المعارضة الذي دعا له تجمع المهنيين السودانيين انطلاقا من ميدان الشهداء في أم درمان صوب مقر البرلمان، كان بلا تصريح، فللمعارضة تجربة مع رفض تصاريح الاحتجاج.
ودائما ما ترفض السلطات -حكومات المحليات أو الشرطة والأمن- طلبات قوى المعارضة بتنظيم الاحتجاجات السلمية حتى تجد مبررا في تفريقها بالقوة.
وفي يناير/كانون الثاني 2018 رفضت السلطات منح الحزب الشيوعي إذنا بالتظاهر في الخرطوم، فخرج أنصار المعارضة عنوة إلى وسط الخرطوم وقابلتهم الشرطة وعناصر الأمن بالغاز المدمع والهراوات واعتقلت قيادة الحزب.
حشود التأييد
على الضفة الشرقية للنيل وفي الساحة الخضراء جنوبي وسط الخرطوم، ظل المكان المفضل وربما الملهم “لثورة الإنقاذ”، فقد تم تأسيسها بعد وصول البشير إلى السلطة عبر انقلاب عسكري في يونيو/حزيران 1989، وكانت دائما مستقرا لمسيرات التأييد والعروض العسكرية.
ومنذ الصباح الباكر حشدت الحكومة أنصارها من الوزارات والهيئات الحكومية، وكان دوام العاملين صباحا على أبواب الحافلات.
وبث ناشطون فيديوهات لمكاتب خاوية وتوقف معاملات حكومية، بينما كانت الحافلات معدة لنقل الموظفين إلى حشد التأييد في الساحة الخضراء.
ارتكزت قوات أمنية على متن شاحنات مسلحة عند مداخل الساحة الخضراء لتأمين مسيرة التأييد، قبل أن يبدأ توافد الحافلات التي نقلت الأنصار، وداخل الساحة اصطفت حاويات معبأة بالمياه، وعلى جنبات الساحة كانت وجبة الإفطار جاهزة.
موكب المعارضة
أما على الضفة الغربية للنهر ومن ميدان الشهداء وحتى الطريق المؤدي إلى مقر البرلمان، فتمركزت القوات الأمنية على متن سيارات مسلحة في انتظار موكب التنحي، لكن هذه المرة لفضه بالقوة.
وبعد الحشد الكبير المؤيد للبشير في الساحة الخضراء، حبس المعارضون والنشطاء أنفاسهم، فهم أمام تحدٍّ كبير بعد ساعات، فقد ضرب موعد لانطلاق موكب التنحي عند الساعة الواحدة ظهرا.
بدأ الموكب بهتاف جديد هذه المرة وهو “طائر طائر في يناير”، في إشارة إلى سقوط الرئيس البشير من أفواه مجموعة صغيرة في ميدان الشهداء، مرورا بمستشفى أم درمان المجاور.
ولكن سرعان ما زاد الموكب وهو يتوجه إلى شارع “الدكاترة” ومنه إلى شارع الأربعين، حيث تبدى موكب كبير شارك فيه الآلاف وهم يهتفون بشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، بينما غص الشارع بنساء الأحياء المجاورة وهن يطلقن الزغاريد.
عندها تصدت تشكيلات من الشرطة وجهاز الأمن للموكب مستخدمة الغاز المدمع والقنابل الصوتية والأعيرة المطاطية، وسط أنباء عن استخدام الرصاص الحي، بيد أن المؤكد أن إصابات وقعت بين المحتجين، كما تعرض عدد منهم للاعتقال. وتفرق الموكب داخل أحياء الموردة وبانت وحي أحياء ود نوباوي والملازمين.
ويعد موكب المهنيين وأنصارهم من قوى المعارضة أكبر موكب تشهده العاصمة الخرطوم منذ انطلاق مواكب صوب القصر الرئاسي تطالب بتنحي الرئيس يوم 25 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
البشير وطه
قبل يوم من مواكب الخرطوم، كان لافتا ظهور علي عثمان محمد طه القيادي البارز في حزب المؤتمر الوطني ونائب الرئيس الأسبق في مقابلة تلفزيونية هدد فيها المعارضين بما أسماها “كتائب الظل”، فضلا عن خطاب للرئيس البشير أمام الجيش لا يخلو من التهديد أيضا.
محمد طه الذي توارى عن الأنظار وصام طويلا عن الإعلام، ظهر مساء الثلاثاء في قناة “سودانية 24″، مدافعا بشراسة عن الحكومة و”نظام الإنقاذ”، وقال إن “كتائب ظل” تحميه ومستعدة للدفاع عنه بأرواحها.
وانتقد طه دعوات تدخل الجيش وعدّه عجزا من المعارضة عن الوصول إلى هدفها وعدم إيمانها بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، حسب تعبيره.
وفي ولاية نهر النيل وتحديدا في قيادة المدفعية بعطبرة مهد الاحتجاجات، آثر البشير أن يخاطب ضباط الجيش وجنوده بدلا من الجماهير.
ولم ينس البشير أن ينعت المحتجين في خطابه بأنهم صنيعة لعملاء وخونة وضعاف نفوس، كل همهم التدمير والتخريب والحرق.
ولوح الرئيس بأن الجيش إذا تحرك واستلم السلطة وفقا لدعوات تم إطلاقها بعد الاحتجاجات، فإن ذلك يعني إبعاد السياسيين والمناوئين عن المشهد السياسي، وأقسم قائلا “إذا الموسيقى (دقت) مرة أخرى فإن أي فأر سيدخل جحره”، في إشارة إلى عزف المارشات العسكرية عند حدوث انقلاب.
المعارضة تدافع
من جهته، عدّ تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود الاحتجاجات المتصلة منذ 23 يوما تصريحات البشير وطه مجرد تهديد وتخويف حتى يتحاشى السودانيون التظاهر والاحتجاج.
وقال عضو في سكرتارية تجمع المهنيين رفض ذكر اسمه للجزيرة نت، إن “النظام الحاكم” سبق أن سفك دماء أكثر من مئتي قتيل في احتجاجات سبتمبر/أيلول 2013، والآن في هذه الاحتجاجات تجاوزت أعداد القتلى الأربعين، ورغم ذلك ما زال مد الاحتجاجات متواصلا.
وطبقا للحكومة السودانية فإن 19 قتيلا وأكثر من 400 جريح سقطوا خلال الاحتجاجات الأخيرة التي تعد الأوسع والأشرس التي يختبرها الرئيس البشير طوال سنوات حكمه الثلاثين.
وشدد عضو السكرتارية أن الشارع الآن أكثر تصميما على إحداث تغيير ديمقراطي ينهي سنوات حكم “الإنقاذ”.
وتعرضت قيادات تجمّع المهنيين وقادة أحزاب المعارضة للاعتقال، في محاولة من السلطات لوقف جماح الشارع، لكن التجمع ما زال قادرا على الإعلان عن مواكب وتنظيمها.
ويبدو أن الشارع ما زال لديه الكثير من المفاجآت للسلطة التي كلما ظنت أن الاحتجاجات إلى زوال تتقد جذوتها كل يوم وهي أكثر توهجا، بحسب عضو سكرتارية تجمع المهنيين.
الجزيرة