كان من المفترض أن يتم تمرير مخطط تصفية القضية الفلسطينية المعروف بصفقة القرن خلال العام 2018، في تقدير جانبه الصواب من الفريق الأميركي المتصهين الذي أشرف على الخطة بإسناد واستشارة ملزمة من اليمين الصهيوني في إسرائيل، عندما انطلقا من رؤية مستعجلة وسطحية، وفي بعض الأحيان متعجرفة وعنصرية للشعب الفلسطيني والعالم العربي والإسلامي وفي قلبه الشرق الوسط بكل تعقيداته وتشابكاته، غير أن أحداثاً جساماً ومتغيرات هامة لم يكن للإدارة الأميركية ولا اليمين الصهيوني ولا المتواطئين والمتعاونين من القادة العرب بعقليتهم ومدركاتهم أن يتوقعوها، وكان الحماس الأميركي يتراجع، وهو ما حدث أكثر من مرة للإعلان عن الصفقة وتأجيلها وتقديم تفسيرات توحي بالجدية وإشاعة جو من التفاؤل بادعاء محاولة التطوير والإنضاج والحرص على مصلحة الطرفين.
ويكمن التردد الأميركي في طرح صفقة القرن إلى هدف وجوهر الصفقة، والتي بداهةً تصطدم بحقائق الواقع وتتجاهل مسائل وحقائق تاريخية ودينية ليس من السهل القفز عليها، فحيثيات صفقة القرن تتعلق بإقامة كيان فلسطيني مشوه في الضفة الغربية يفتقد إلى التواصل الجغرافي والسيادة الحقيقية وبصلاحيات أقل من الحكم الذاتي، على أقل مما تبقى من 60% من مساحة الضفة وكمقدمة لإلحاقها بالأردن في سياق صيغة سياسية بمسمى الكونفدرالية، وأما قطاع غزة فيتم التعاطي معه ككيان مستقل ضعيف عسكرياً مع إدارة ذاتية مرحلية تدير الشأن الإنساني إلى حين إيجاد صيغة أخرى، كتعظيم الدور المصري في القطاع، أو تكريس كيان القطاع وصولاً إلى ما يشبه دولة مستقلة بعد تفكيك المقاومة ونزع أنيابها العسكرية، أما القضايا المصيرية المرتبطة بالثوابت الفلسطينية، كاللاجئين، والقدس، والحدود، والسيادة، والدولة المستقلة، فلا مكان لها في الصفقة، فضلاً عن أنه، على الأقل نظرياً، حسمت “إسرائيل” والولايات المتحدة بعض القضايا مثل القدس، ومساحة الكيان الفلسطيني وطبيعته.
مأزق الصفقة
وقفت جملة من المسائل كحجر عثرة أمام الإعلان عن الصفقة، منها ما هو مستجد له علاقة بالإقليم، ومنها ما يتعلق بمضمون وجوهر صفقة القرن:
في ما يتعلق بالمضمون، فإن الصفقة وبشكل صارخ لا تقترب من الحد الأدنى لطموحات وتطلعات الشعب الفلسطيني، ومفصلة بالكامل لخدمة مصالح اليمين الصهيوني ورؤيته للحل، وبالتالي لن تجد الإدارة الأميركية وحكومة اليمين الصهيوني من الشعب الفلسطيني، أياً كانت مواقفه أو مواقعه السياسية، القبول بما هو معروض في الصفقة، حتى المسؤولون من قيادة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية المعروفون بقادة التنسيق الأمني والمنخرطون في صفقة القرن لن يوافقوا، لأنهم يدركون تماماً غضبة الشارع الفلسطيني، وفقدان أي شرعية أو ما تبقى منها للسلطة في الضفة الغربية إذا ما أظهرت بوادر للقبول، سواء بالإيحاء أو التصريح.
ومن جانب آخر، وحتى الأنظمة العربية المتواطئة والتي وعدت ترامب من تحت الطاولة بالسير قدماً في صفقة القرن، لم تكن لديها الشجاعة الكافية لتعلن مشاركتها في المشروع الأميركي، أو على الأقل تأييده، فهي تدرك استحالة تمرير موافقتها على شعوبها، في وقت تعاني هي من أزمة شرعية حقيقية متصاعدة.
هذا ما يتعلق بالمضمون، ولكن هناك مستجدات خلال العام 2018، منها ما هو داخلي فلسطيني و”إسرائيلي”، ومنها ما يتعلق بالإقليم، خاصة من الممالك والدول التي وعدت ترامب بالدفع في مخططه:
أول هذه المستجدات محورها الساحة الفلسطينية، والتي تجسدت في انطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار في قطاع غزة، في مظهر جليل للحشود الكبيرة من جميع الفئات العمرية ومن معظم أطياف الشعب الفلسطيني وفصائله الوطنية وبأدوات سلمية، والتي بلغت ذروتها في 14 أيار/ مايو 2018، يوم الاحتفال الأميركي “الإسرائيلي” بنقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس، في ترجمة عملية لاعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وتطبيق الشق الخاص بالقدس في صفقة القرن، حيث استشهد أكثر من 60 متظاهراً فلسطينياً وأصيب المئات في رفض وغضب واضح من المخطط الأميركي، وهو ما أوحى بإمكانية انفجار الأوضاع وانتقال الأحداث إلى الضفة الغربية.
الثاني إقليمي، ويتعلق بأحد الروافع والمرتكزات الأساسية لصفقة القرن، والذي كان من المفترض أن يروج بأدواته ومكانته للصفقة في السياق العربي، ويمارس ضغوطه على السلطة الفلسطينية تحت طائلة العقوبات، وهو محمد بن سلمان، حيث تعهد لجاريد كوشنر، رئيس فريق صفقة القرن والرئيس ترامب، بإجبار الفلسطينيين على قبول الصفقة، غير أن أحداث العام الحالي والفائت أغرقت النظام السعودي، خاصة محمد بن سلمان وفريقه السياسي والإعلامي والاستخباري المنفلت وعديم الخبرة، في دوامة وتعقيدات اكتسبت أبعادا إقليمية ودولية، كان آخرها حادثة اغتيال جمال خاشقجي وتداعياتها الكارثية، والتي قلصت من هامش المناورة لدى بن سلمان، وأفقدته الكثير من الهالة التي كان من الممكن أن يوظفها لصالح الإدارة الأميركية و”إسرائيل”، ومنها صفقة القرن، وانسحب ضيق هامش المناورة على حليف وموجه بن سلمان، محمد بن زايد، حاكم الإمارات الفعلي، الذي يعتبر مع الرئيس المصري عبد لفتاح السيسي من أعمدة سياسات ترامب الشرق أوسطية، ومن ضمنها صفقة القرن. فقد شغلت حادثة خاشقجي وتداعياتها، وانتباه العالم نحو حرب اليمن والمأساة الإنسانية وضرورة وقفها، الثنائي بن زايد وبن سلمان، وأعادت خلط الأوراق وترتيب الأولويات الإقليمية ولو مرحلياً.
المستجد الثالث يتعلق بالداخل الإسرائيلي، ومكانة رئيس الوزراء الإسرائيلي بين صفوف اليمين الصهيوني المتطرف، فرغم أن الصفقة بصيغتها العامة وتفاصيلها تتناغم مع مطالب “إسرائيل”، وتنسجم مع أطروحات اليمين الديني المتطرف، بل إن نتنياهو فرض رؤيته على معظم تفاصيلها، إلا أنه غير متحمس لها ولا يرغب في طرحها، خشية من مزايدات اليمين الصهيوني الذي يعتبر نفسه أكثر تطرفاً من نتنياهو (حزب البيت اليهودي)، في جو تنافسي حزبي لا يخلو من مزايدات، ومن جهة أخرى، فإن ما هو مطروح “إسرائيليا” ويُطبق على أرض الواقع في الضفة الغربية والقدس ينسجم مع جوهر مخطط صفقة القرن. ويسير المخطط “الإسرائيلي” بخطى متسارعة وبأقل كلفة ممكنة ودون إثارة أي ردات فعل لا دولية ولا إقليمية ولا حتى من السلطة الفلسطينية، وبالتالي يعتقد نتنياهو أنه في وضع مريح، وبيئة استراتيجية مواتية، وأنه ليس مضطرا إلى دفع أي أثمان ولو شكلية
مستقبل الصفقة
الإدارة الأميركية ورغم تأجيل الإعلان عن الصفقة أكثر من مرة، إلا أنها مصرة على السير قدماً فيها، والإعلان عنها، متمنيةً القبول بها على الأقل من الطرف الفلسطيني، فالإدارة الأميركية ورغم الارتباك الحاصل وفوضى القرارات، فإنها بحاجة إلى تحقيق إنجاز على صعيد السياسة الخارجية بعد الفشل الذريع في الملفات الخارجية الأخرى. وتشجعها على ذلك حالة الضعف العربي العام، وأزمة الشرعية التي تعاني منها معظم الأنظمة العربية، والتهديدات الجدية التي تواجهها من شعوبها أو من المشروع الإيراني الصاعد وتمدده، حسب ما يروجون، والوعود أو الإيحاءات الإيجابية من جانب كلٍ من الرئيس المصري ومحمد بن سلمان، ومحمد بن زايد، ومن ملك البحرين بدعم صفقة القرن.
كما أن الإدارة الأميركية ترى في الإعلان عن صفقة القرن والحد الأدنى من القبول بها، على الأقل فلسطينياً، متطلباً أساسياً لتمرير وتشكيل “حلف الناتو العربي” الشرق أوسطي الذي تخطط الإدارة الأميركية للإعلان عنه في الربع الأول من العام القادم، والذي يهدف إلى دمج “إسرائيل في المنطقة” وتوسيع مساحة وآفاق التطبيع، وتشكيل حلف لمواجهة إيران، ومواجهة “الإسلام السياسي” بشقه السلفي الجهادي و”الإخواني”.
سواء أعلنت الإدارة الأميركية صفقة القرن أم لا، فإن إسرائيل ماضية في تطبيق جوهر صفقة القرن بإجراءاتها العملية في الضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى، وتطبيق مشروع إسرائيل 2020 في ما يخص الأراضي المحتلة الذي تم الشروع في تطبيقه بعد اتفاق أوسلو عام 1993.
ولكن وبشكل عام وعلى خلاف ما يعتقد الرئيس ترامب وقادة اليمين الصهيوني، فإن الشعب الفلسطيني وبكل قواه الحية لن يقبل بالتنازل عن حقوقه والتفريط بثوابته، والشعوب العربية أيضاً، وإن تواطأت قيادتها مع إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة، فإنها قريبة من توليها زمام المبادرة وتغيير الواقع لصالح الاستقلال الحقيقي والانحياز إلى قضايا الأمة الوطنية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
العربي الجديد