ليس من دون دلالة أن جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي، اختار مؤتمره الصحافي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأثناء زيارته للدولة العبرية، لتعديل موقف رئيسه دونالد ترامب حول الانسحاب الأمريكي من سوريا، الذي قام «بلحس» تصريحاته التي يناقض كل واحد منها الآخر حول الموضوع، في إشارة واضحة أن تل أبيب قرّرت كبح «تهوّر» الرئيس الأمريكي.
ما يهمّ الأجندة الأمريكية الجديدة حول الانسحاب، حسب بولتون، هو «التأكد من أن استمرار الدفاع عن إسرائيل (والآخرين في المنطقة) هو أمر مضمون»، ولتوضيح من هم المقصودون بـ«الآخرين» طالب بولتون تركيا، بلهجة لا تخلو من التهديد، بـ«حماية الأكراد والأقليات» قائلا إن الجيش التركي لا يمكن أن يتحرك إلا بتنسيق مع واشنطن، وهو تصريح أدّى إلى فورة غضب تركيّة فورية مما أفشل زيارة بولتون إلى تركيا، والتي اقتصرت على لقاء إبراهيم قالن، الناطق باسم الرئاسة التركية بعد رفض الرئيس رجب طيب إردوغان واتهامه بارتكاب خطأ فادح.
شرح إردوغان موقف الأتراك بصراحة قائلا إن من يطالب بولتون تركيا بحمايتهم هم «إرهابيون» وأن الإرهابيين قد يكونون أكرادا أو أتراكا أو تركمانا أو عربا، و«إن كانوا إرهابيين فسنقوم باللازم بغض النظر من أين أتوا»، كما ردّ الناطق باسمه على بولتون بالقول «إن الجيش التركي لن يأخذ إذنا من أحد».
سعت زيارة بولتون للشرق الأوسط إلى حلّ مجهولين في المعادلة السورية (من أصل عشرات المجاهيل) هما أمن إسرائيل وحماية عناصر حزب العمال الكردستاني التركي العاملين في سوريا، وجاءت زيارة بولتون لإعادة ترتيب للأولويات (إسرائيل ثم حزب العمال الكردستاني…) من دون إجابة فعلية على سؤال: من سيملأ الفراغ الذي سيتركه الانسحاب؟
أحد الحلول التي حاولت إدارة ترامب بحثها هي إحلال قوات من مصر والإمارات وقد ناقشته دول عربية أخرى (بينها الأردن) ولكنه لم يصب نجاحاً يذكر لأنه سيضع هذه القوّات في مرمى نيران الجميع، من تركيا نفسها والفصائل السورية القريبة منها، إلى إيران وميليشياتها التي ستجدها فرصة لمماحكة الدول الخليجية في ساحة أخرى غير اليمن، وكذلك باقي الأطراف، كالتنظيمات الجهادية وربما روسيا والنظام السوري أيضا.
تركيا ردّت على هذا الطرح باقتراح قدّمه الرئيس التركي في مقال له في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية وتحدث فيه عن «تأسيس قوة استقرار تضم مقاتلين من أطياف المجتمع السوري كافة»، وكان اللافت في هذا الطرح أن «قوة الاستقرار» المقترحة ستضم أكراداً، في رد واضح على أن تجاهل الأمريكيين لواقع أن الأكراد ليسوا جميعهم مناصرين لحزب العمال الكردستاني.
يشير خبر بحث وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو مساعدة السلطات العراقية في موضوع الانسحاب الأمريكي من سوريا على مدى التخبّط الذي وصلت إليه إدارة البيت الأبيض، وكذلك مدى الابتعاد عن المنطق فيها.
قرار الانسحاب، كما كشفت وسائل الإعلام، جاء استجابة لطلب الرئيس التركي من نظيره الأمريكي حلّ مشكلة حزب العمال الكردستاني التي تؤرق الدولة التركية، ولكون هذا الحزب واجهة لإيران، التي يتعامل معها نفطيا، وللنظام السوري، الذي «نفخ» فيه من روحه، بعد الثورة السورية، وسلّمه مناطق شاسعة من البلاد لكسر التحالف الكردي ـ العربي ضد النظام، وللاستثمار في عداء الحزب لتركيا.
النتيجة أن ترامب، الذي كان قد وعد جمهوره مرات كثيرة بسحب الجيش الأمريكي من مناطق الصراع التي تستنزف الخزينة الأمريكية، وإعادة «شبابنا إلى الوطن»، وجد الفرصة سانحة لإعلان ما يتوق إليه فكان أن سارعت «الاستابلشمنت» (المؤسسة) الأمريكية في الجيش والخارجية، للتدخّل، وكذلك فعلت إسرائيل، ورأينا ترامب «يتأتئ»، ورجاله يحاولون حلّ القضية مجددا على حساب تركيا.
القدس العربي