تنطلق السياسة التركية من استراتيجية واضحة في التعامل مع الملف السوري، فمنذ انطلاقة الثورة وما قبلها، وما نتج عنها من أزمات داخل سوريا أولاً، وما نتج عنها من أزمات تؤثر على الأمن القومي التركي ثانيا، وأخيراً ما نتج عنها من انعكاسات وأزمات على دول المنطقة والشرق الأوسط والعالم ثالثاً، والسياسة التركية تتفاعل معها لتأمين حقوق الشعب السوري وحمايته، بإيجاد تفاهمات مشتركة مع أمريكا، وبالأخص بعد تشكيل أمريكا التحالف الدولي لمحاربة تنظيم «الدولة» في 2014، واشتراط تركيا مشاركتها في العمليات العسكرية بالاطلاع على الخطط والأهداف الأمريكية، ما جعلها تتأخر عاماً كاملاً عن المشاركة عسكريا في عمليات التحالف الدولي.
ثم أقامت تركيا تفاهمها وتعاونها مع روسيا أواخر عام 2016، بعد رفضها للتدخل العسكري الروسي منذ 30 سبتمبر 2015، وقد شاركت تركيا في مؤتمرات جنيف 2012، وشاركت في مؤتمرات أستانة على مدى عامين 2017 و2018، فكانت السياسة التركية تتعامل مع التطورات السياسية والعسكرية في سوريا بما يؤدي إلى منفعة الشعب السوري أولاً، وبما يدفع الضرر عن تركيا وأمنها القومي الداخلي والخارجي ثانياً، ولذلك وقعت تركيا في حالة انزعاج دائم منذ انطلاق الاحتجاجات الشعبيةفي مارس/آذار2011.
ما أزعج تركيا كثيراً هو عدم الاهتمام الدولي للقيام بما يجب لحماية الشعب السوري في الداخل والمشردين منهم في الخارج، حيث يوجد في تركيا وحدها أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ من كل القوميات السورية، بمن فيهم العرب والتركمان والأكراد والمسلمين والمسيحيين والعلويين والآشوريين وغيرهم، وما أزعجها أيضاً تحول الأرض السورية إلى ساحة صراع دولي بين روسيا وأمريكا، وتحولها إلى ساحة صراع إقليمي بين الدول العربية وإيران وميليشياتها الطائفية العراقية واللبنانية والأفغانية وغيرها، وما أزعج تركيا أكثر مما سبق تحول مشاريع بعض الدول المساهمة في إيجاد حل للأزمة السورية إلى مشاريع تقسيم لسوريا على أساس طائفي أو قومي، وكان من أخطر هذه المشاريع مشروع السفير الأمريكي السابق في سوريا فورد، الذي جهز خريطة تقسم سوريا إلى ستة كنتونات، حاولت روسيا في مرحلة سابقة تبنيها باسم سوريا الفيدرالية، ولكنها لم تعمل على تنفيذها حتى الآن، وقد تكون تفاهماتها مع تركيا أحبط هذه المحاولة.
هناك مصالح لأمريكا في تقسيم سوريا وإعطاء وطن قومي باسم الأكراد فيها على حساب أهلها المشردين في الداخل والخارج
إن ما أحبط مشاريع تقسيم سوريا حتى الآن هو رفض قوى الشعب السوري كل مشاريع التقسيم أولاً، ونجاح تركيا في إقناع روسيا وإيران بأضرار التقسيم على سوريا ومنطقة الشرق الأوسط ثانياً، وكان أخطر ما في مشاريع التقسيم هو إقامة كيان كردي على طول الشريط الحدودي السوري مع تركيا، وهو الذي تبنته أمريكا وراهنت فيه على التنظيمات الكردية، ومنعت قوات المعارضة السورية العربية المشاركة فيه، وهو الأمر الذي رفضته الحكومة التركية رفضاً تاماً وكلياً وقاطعاً، وعلى أساس هذا الرفض قامت تركيا بتقديم الدعم العسكري للشعب السوري ممثلا بفصائل المعارضة السورية المسلحة، لتحرير المدن السورية العربية من أيدي تنظيم «الدولة» في عملية درع الفرات 2016، وبتحرير مدنهم من التنظيمات الإرهابية التي تدعي تمثيل الكرد في عملية غصن الزيتون 2018، وبعد نجاح العمليتين العسكريتين تعهدت تركيا بمساعدة فصائل المعارضة السورية المسلحة والجيش السوري لتحرير باقي مدن شمال سوريا من منبج وشرق الفرات بالكامل، وهو ما أزعج وزارة الدفاع الأمريكية، التي كانت تقوم بتنفيذ خططها لإقامة كيان كردي في منبج وشمال شرق سوريا، وأعدت لذلك عشرات القواعد العسكرية التي تحمي هذا الكيان المختلق.
على إثر التعهد التركي بمساعدة الجيش السوري الحر والجيش الوطني السوري لدخول منبج وشرق الفرات، جاء قرار الرئيس الأمريكي ترامب في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي بالانسحاب العسكري الأمريكي من كل سوريا، وأتبعته تصريحات أمريكية من ترامب بأنه على تفاهم مع الرئيس التركي أردوغان في ما يتعلق بالانسحاب الأمريكي من سوريا، وبسبب عدم موافقة وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) على قرار الرئيس ترامب بالانسحاب، استقال وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس من منصبه، وتبعته استقالة عدد من المستشارين والضباط المرتبطين بالتواجد الأمريكي في سوريا، فأظهر ذلك تناقضات في الموقف الأمريكي من الانسحاب من سوريا، وصفها ماتيس في خطابه الأخير للجيش الأمريكي بوجود «بلبلة سياسية في واشنطن»، لأن قرار البيت الأبيض مخالف لمشروع البنتاغون.
أتبع ذلك تصريح لوزير الخارجية الأمريكي بومبيو يوم 4 يناير/كانون الثاني الجاري في حديث لقناة «نيوز ماكس»، قال فيه: إن «ضمان تجنب قتل الأكراد من قبل الاتراك، وحماية الأقليات الدينية في سوريا جزء من مهمة الولايات المتحدة»، وهو ما رفضته الحكومة التركية في بيان صادر عن متحدث وزارة الخارجية التركية حامي آقصوي، وقال البيان التركي: «نرفض تصريحات وزير الخارجية الأمريكي المتعلقة ببلادنا في سياق الأزمة السورية من حيث الأسلوب والمحتوى»، والقضية الأساسية التي رفضها البيان التركي هي مقارنة بومبيو تنظيم «ي ب ك/ بي كا كا» الإرهابي بالأكراد، فهذه التنظيمات الارهابية لا تمثل أبناء الشعب الكردي في سوريا ولا في غيرها، بل هي منظمات تستغلها أمريكا لتحقيق أهدافها في سوريا، وهذا الربط إما أن امريكا تعرفه وتتعمده، أي تعرف أن هذه التنظيمات لا تمثل الشعب الكردي، أو أن أمريكا تشتبه عليها الأمور ، ظانة أن هذه المناطق هي مناطق كردية في الأصل، وهو ما لا يُتوقع أن تكون أمريكا تجهل ذلك، فالقرى والمدن والأرياف التي احتلتها التنظيمات الكردية هي قرى ومدن عربية، ووجود أبناء القومية الكردية فيها قليل جداً، ولولا الطيران الأمريكي لما استطاعت هذه التنظيمات احتلال المدن العربية شمال سوريا، ولا استطاعت طرد أهلها العرب السوريين منها أيضاً، أي أن أمريكا تعلم أن هذه التنظيمات لا تمثل الشعب الكردي، وتعلم أيضاً أنها محتلة لمدن وقرى وأراض عربية تم إخراج أهلها منها بالقوة والطيران الأمريكي على وجه الخصوص، بحجة تحريرها من تنظيم «الدولة»، لذلك فإن تصريح بومبيو مغالطة مقصودة، وتخدم الرؤية الأمريكية والإسرائيلية لمستقبل سوريا من وجهة نظر استعمارية.
إن تركيا تدرك ذلك، بدليل ان البيان التركي أدان بشدة اعتبار تنظيم «ي ب ك/ بي كا كا» الإرهابي شريكا للولايات المتحدة في مكافحة تنظيم «داعش» الإرهابي، فهذه حيلة أمريكية فضحها الرئيس ترامب في حملته الانتخابية، كما أن اتهام تركيا بمحاولة قتل الأكراد، هي تهمة أكبر خطورة من سابقتها، فلماذا تتهم أمريكا تركيا بأنها سوف تقتل الأكراد إذا انسحبت أمريكا من سوريا، وحلت مكان تواجدها قوات سورية مدعومة عسكريا من تركيا، وأمريكا نفسها تعلم أن تركيا تراعي حقوق الأكراد السوريين داخل سوريا أولاً، وتقوم باحتضان مئات الآلاف منهم في مخيمات اللجوء داخل تركيا ثانياً، وبالأخص الأكراد السوريين الهاربين من اضطهاد تنظيم «ي ب ك/ بي كا كا» الإرهابي.
ثم أتبع تصريح بومبيو تصريح آخر أكثر رفضاً من تركيا هو تصريح مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون يوم 7 يناير الجاري، الذي جاء بعنوان شروط أمريكا للانسحاب من سوريا، وهي حماية أمن إسرائيل أولاً، وحماية الشعب الكردي من القتل من قبل تركيا ثانياً، وجاء التصريح بعد اجتماع بولتون برئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وبالجمع بين تصريح بومبيو وتصريح بولتون، يتأكد أن البلبلة في السياسة الأمريكية التي تحدث عنها جيمس ماتيس في واشنطن تجلت في قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا، أي أن هناك قوى داخل أمريكا لا تزال تعمل على الخطة القديمة، أو تعمل على الخطة التي حاول الرئيس الأمريكي ترامب تجاوزها، وقد أعلن عنها ترامب بلغة واضحة، أن أمريكا لا تريد البقاء في أي مكان في العالم لا يعود على أمريكا بالأموال، فالرئيس ترامب يحسب التواجد الأمريكي في سوريا من وجهة نظر مالية واقتصادية، وقال في تصريحات سابقة بأنه لا يوجد في سوريا إلا رمال وموت، بينما تجد قوى أمريكية أخرى أن هناك مصالح لأمريكا في تقسيم سوريا، وإعطاء وطن قومي باسم الأكراد في سوريا، قد لا يقل أهمية في حالة ثبات الوجود الأمريكي والإسرائيلي في سوريا على حساب أهلها المشردين داخل سوريا وخارجها، ولكن العقبة الكبرى أمام أمريكا لإقامة كيان كردي ليس الرفض التركي فقط، وإنما هو وجود شعب عربي سوري لن تنطلي عليه ألاعيب التقسيم والوعود بالأوطان القومية الوهمية للغرباء، ولو بعد مئة عام، فالمصالح العربية والتركية تلتقي رغماً عنهم في منع سرقة أراض عربية لغير أهلها.
محمد زاهد جول
القدس العربي