صارت جبهة النصرة لغزا محيرا، بالطريقة التي انتزعت بواسطتها ما يسمّى “المحرّر” من الأراضي في سورية، من دون قتال غالبا، أو على وجه التقريب، بموقف القوى الدولية والإقليمية والمحلية من شنها معارك أدت إلى تبديل توزيع القوى في المناطق، من دون أن يحرّك أحد ساكنا، أو يتخذ أي إجراء لمنع تمدّدها الخطير بجميع المعايير، تطبيقا لقرار دولي اتخذته في قمة سوتشي روسيا وإيران وتركيا، ووافقت عليه الولايات المتحدة التي تجاهلت بدورها نيفا وعشرين ألف مقاتل، ينسبون أنفسهم من دون مواربة إلى تنظيم القاعدة الذي ذهب جيش واشنطن لمقاتلته في أفغانستان البعيدة، بينما ينشر قواته في منطقةٍ مجاورةٍ لشرق الفرات، حيث لها قوة جوية وبرية تستطيع، في أقل تقدير، شن غارات جوية وتوجيه ضربات أرضية إليه، لكنها لا تفعل، بل تتعايش معه بسلام. يحير لغز جبهة النصرة السوريين الذين يطرحون أسئلة تبقى من دون أجوبة، تدور جميعها حول علاقة مفترضة لتركيا بها، يفسّرون بها تمدّد “النصرة” إلى مناطق تحتلها فصائل محسوبة على أنقرة، من دون أن يتوقفوا عند حقيقة أن جيشها موجودٌ في مناطق القتال، لكنه لم يفعل شيئا لحماية فصائل صديقة لأنقرة التي ضنت عليها ببيان يدين العدوان عليها! ويبقى السؤال: لماذا أمرت تركيا جبهة النصرة بالتخلص من فصائل موالية لها، هي بحاجة إليها ضد قوات سورية الديمقراطية (قسد) وبشار الأسد؟ هناك تفسير آخر ينسب تغول “النصرة” إلى قرار دولي أعدته تركيا، كلفت بتنفيذه كتنظيم إرهابي يرفضه العالم، لكنه يُستفاد من خدماته.
إذا كانت تركيا تحمي جبهة النصرة، لتستخدمها لاحقا ضد “قسد” في معركةٍ آتية ضدها، فما الذي يمنع واشنطن من استهدافها، ما دامت ستقاتل قريبا حلفاء لها، أعلنت بلغةٍ فظّة أنها لن تسمح لتركيا بمهاجمتهم، وربطت انسحابها من شرق الفرات بحمايتهم، وبالقضاء النهائي على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؟ وإذا كانت أنقرة وراء امتناع روسيا عن ضرب تنظيمٍ تعتبره قرارات سوتشي وأستانة التي تقف روسيا وراءها إرهابيا، يجب القضاء عليه، فما الذي منع إيران والنظام من مقاتلته، مثلما فعلا ضد الجيش الحر في سوق وادي بردى، حيث أعلنت روسيا أن فصائله ليست إرهابية، وطالبت رسميا بوقف الهجمات عليها، من دون أن يتوقف الهجوم الإيراني الأسدي عليها؟
هل تلزم تركيا إيران والأسد بالامتناع عن مهاجمة تنظيمٍ تابع لها أو يعمل في خدمتها؟ وإذا كانت روسيا ستطيع أنقرة في ما يتصل بـ “القاعدة”، فلماذا اتخذت قرار القضاء عليه؟ ولماذا وافقت تركيا على جداوله التنفيذية، وجددت موسكو التزامها به بلسان الرئيس بوتين؟ ولماذا هاجم الطيران الروسي جبهة النصرة قرب حلب، ووقف مكتوف الأيدي طوال أشهر حيال سيطرتها على عشرة آلاف كيلومتر مربع من “المحرّر”، ومثله فعل طيران أميركا؟ ماذا وراء هذا الموقف الدولي الذي لا يُعقل أن تكون تركيا هي التي فرضته على عالمٍ تسوغ دولتاه الكبيرتان احتلالهما الأرض السورية بالحرب على الإرهاب، وتحاربان “داعش” بهذا القدر أو ذاك، لكنهما تتعايشان بسلام مع تنظيمٍ أشد خطورةً، وأكثر تنظيما وقدراتٍ منها، ينتشر في مناطق معروفة، ويعلن تصميمه على مقاتلتهما، وتحرير عفرين من تركيا، وسورية منهما؟
لا ينتمي الموقف من جبهة النصرة إلى عالم الحرب، إنه جزء من تهيئة الأجواء للحل الدولي، ولذلك قبلت أطرافه إزالة الفصائل التي فقدت قيمتها لدى داعميها الذين فقدوا دورهم. لم تتحرّك تركيا، لأن خيارها الجيش الوطني الذي أسسته، ولا تريد أن يبقى في الساحة تنظيم غيره. لذلك لن تحسم “انتصارات” جبهة النصرة مصيرها، المرتبط من الآن فصاعدا بتقدم مساعي الحل الدولي، بدءا بترتيب علاقات تركيا بكرد شرق الفرات، وتشعباتها المعقدة.
مشاركة .
ميشيل كيلو
العربي الجديد