يصر كثير من الباحثين والمشايخ على ربط التشيع بالعرقية الفارسية، وكأن الفرس هم من أوجدوا الفكر الشيعي، وهم حملة راية التشيع طيلة تاريخهم. والحقيقة أن ذلك الفكر صناعة عربية صرفة، فأغلب الفرق والجماعات الشيعية نشأت في بلاد العرب بأيد عربية؛ فالإمامية والإسماعيلية والنزارية والفاطميون والدروز والقرامطة والحشاشون إلى غير ذلك من فرق وجماعات رافضية هي عربية المنشأ، مؤسسوها عرب، ودعاتها الأوائل عرب، فالإمامية انبثقت منها الإسماعيلية (بعد موت الإمام السادس والاختلاف على الإمامة بعده).
وتعتبر الإمامية والإسماعيلية الأوسع انتشارا بين الفرق الشيعية، فمن الإمامية خرجت العلوية أو النصيرية التي أسسها محمّد بن نصير العبدي البكريّ النميّري والفرقة الشيخية التي أسسها أحمد بن زين الدين الإحسائي ومن الشيخية خرجت البابية ومن البابية خرجت البهائية. وأما الإسماعيلية فقد انبثق منها القرامطة على يد حمدن بن الأشعث. والفاطميون أسسوا دولة كبيرة، تقوم على العقيدة الإسماعيلية، وانبثق من تلك الدولة فرق شيعية كثيرة كالنزارية والمستعلية والدروز وغيرهم من الفرق، ثم خرج من تلك الفرق فرق أخرى، فالحشاشون خرجوا من النزارية، والذي أسس جماعة الحشاشين هو الحسن بن الصباح الحميري. هذه لمحة خاطفة سريعة عن أصول الفرق الشيعية، فبالرجوع إلى الكتب التاريخية، نعلم أنها صناعة عربية، وأن أغلب تلك الفرق نشأت في بلاد العرب، بعيداً عن الفرس.
ولكن أين الفرس؟
في الوقت الذي بدأ فيه دور العرب الحضاري بالتراجع في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وأخذوا يشكلون الفرق والجماعات (الشيعية والسنية)، علا نجم المسلمين الفرس، فبرز في بلاد فارس أغلب علماء الحضارة الإسلامية، فيكفي أن تعلم أن أئمة الحديث الستة فرسٌ إضافة إلى إسحاق بن راهويه والبيهقي والحاكم والكثير من أعلام علم الحديث.
الحقيقة التاريخية تؤكد أن الصفويين التركمان استعانوا بمائة عالم شيعي عربي من جبل عامل في لبنان، وهؤلاء من قاموا بتعليم الفرس مبادئ الدين الرافضي
وأما علماء التفسير فمعظمهم من الفرس على رأسهم الزمخشري والرازي والبغوي وغيرهم من علماء التفسير، وأما أئمة اللغة العربية والأدب كانوا فرسا على رأسهم سيبويه ونفطويه وأبو علي الفارسي والزجاج وابن المقفع وبديع الزمان الهمداني. وأما علم الفقه فقد برز فيه كثير من العلماء الفرس على رأسهم أبو حنيفة النعمان. والعلوم الطبيعية فأغلب علمائها من الفرس، كابن سينا وجابر بن حيان والخوارزمي والحسن بن الهيثم والفارابي والبيروني. فالقائمة تطول وتطول من أسماء العلماء الفرس الذين حملوا مشكاة العلم في الحضارة الإسلامية. فبلاد فارس كانت أرضا إسلامية ناطقة بالعربية، تعج بالمدارس والمعاهد العلمية، وكان الفرس يحملون راية العلم والثقافة في الحضارة الإسلامية، حتى جاءهم الفكر الشيعي من بلاد العرب. ثم ابتلاهم الله بدول وممالك قامت على أرضهم تحمل ذلك الفكر.
وأول الدول الشيعية التي قامت في إيران هي الدولة البويهية التي تأسست سنة 321هـ على يد الديلم، وهم قومية لا علاقة لها بالفرس، ويُصر البعض على نسب البويهيين إلى الفرس، مع أن الديلم عرق وثقافة مختلفة كثيرا عن الثقافة الفارسية، فلا الأصول مشتركة ولا أي شيء يجمع بين العرقين، ولكن بعض الكتاب والمؤرخين صدقوا الدعاية البويهية عندما نسبوا أنفسهم إلى ملوك الساسان وذلك لإضفاء الشرعية على حكمهم.
وأما إعلاؤهم لشأن الثقافة الفارسية، فهو من باب حقدهم على العروبة والإسلام، فاجتهدوا في طمس معالم العربية من بلاد فارس، وانتهجوا نهجا قاسيا في تعاملهم مع الخلفاء العباسيين، فكانوا يتعمدون احتقارهم والانتقاص من قدرهم، والتدخل المباشر في شؤون الحكم، وتعيين وعزل الخلفاء، حتى جاء الأتراك السلاجقة وأعادوا للخلافة العباسية هيبتها. ومن الجدير بالذكر أن أغلب الفرس في زمن البويهيين كانوا من أهل السنة والجماعة، فلم يجبر البويهيون أحدا على التشيع، حالهم كحال الفاطميين في مصر.
وتزامن مع الدولة البويهية وجود دول تركية (سُـنـيـة) سيطرت على أجزاء من إيران كالدولة الغورية والغزنوية، ثم السلاجقة الذين قضوا على الدولة الغزنوية والدولة البويهية، ثم مملكة خوارزم التي سيطرت على أجزاء واسعة شرق إيران، تزامنا مع وجود السلاجقة في بقية إيران. حتى جاء اجتياح المغول، وبدأ عصر الدول المغولية المتتابعة (دولة إلخانات المغول، والدولة الشوبانية، والدولة الجلائرية)، هذه الدول قامت على الفكر الشيعي. ثم خرجت من رحم الدول المغولية، دول تركمانية، فمن المعروف أن الترك تحالفوا مع المغول، وكانوا جزءاً أساسياً في الدول المغولية المتتابعة. فما أن ضعف المغول في إيران حتى خرج العنصر التركماني وأسس دولا تركمانية متعاقبة كان أولها: الدولة التيمورية التي قامت سنة 1370م على يد تيمورلنك، وامتدت من الهند إلى البحر المتوسط. وكان تيمورلنك شيعيا. ثم مات سنة 1407م، وبعد موته ضعفت دولته ولم تدم طويلا.
ثم قامت دولة (آق قويونلو)؛ وهي دولة تركمانية شيعية استولت على اجزاء كبيرة من دولة تيمورلنك واستمرت حتى بداية القرن السادس عشر الميلادي، حيث قامت الدولة الصفوية؛ وهي دولة تركمانية، وهذه معلومة يجهلها معظم المسلمين، فهناك إصرار عجيب على ربط الصفويين بالفرس، مع أن الحقيقة التاريخية وكتب التاريخ المعتبرة تؤكد أن الصفويين هم تركمان، كانوا متصوفة ونسبوا إلى صفي الدين الأردبيلي الصوفي، ثم تحولوا إلى التشيع تمييزا لهم عن أبناء عمومتهم العثمانيون (السُنة)، فالموضوع سياسي بحت.
ثم بدأ الصفويون عمليات تطهير ديني داخل إيران، واستطاعوا نشر التشيع بين كثير من أبناء الشعب الفارسي المسكين، الذي يجلس متأملا في الأجانب وهم يتناحرون على بلاد فارس، ثم يحكموها بالحديد والنار، ثم ينشرون بينهم فكرا مستوردا من بلاد العرب، والحقيقة التاريخية تؤكد أن الصفويين التركمان استعانوا بمائة عالم شيعي عربي من جبل عامل في لبنان، وهؤلاء من قاموا بتعليم الفرس مبادئ الدين الرافضي، ولا يزال كثير من علماء الرافضة تنتهي أسماؤهم بالعاملي (نسبة إلى جبل عامل).
بعد انهيار الدولة الصفوية قامت الدولة الأفشارية التركمانية الشيعية التي أسسها نادر شاه الأفشاري سنة 1736م واستمرت حتى عام 1796م. وفي هذا العام قامت الدولة القاجارية التركمانية الشيعية، واستمرت حتى عام 1925م. وبعد أن حكم الديلم والأتراك والمغول والتركمان إيران أكثر من ألف سنة، جاء دور الفرس ليحكموا بلادهم؛ فمنذ الفتح الإسلامي غلب الأجانب على حكم إيران، فتناوب العرب والأتراك والمغول والتركمان على حكمها، ومن حكمها من الفرس (زمن العباسيين) فهو تابع لدولة الخلافة، وكانوا كلهم من أهل تاسنة والجماعة، ورضا خان بهلوي هو أول فارسي شيعي يحكم إيران.
والدولة البهلوية التي أسسها رضا بهلوي سنة 1925م، دولة عالمانية، لا علاقة لها بالفكر الشيعي، فالنظام عالماني متحرر تابع للغرب، وكان على علاقة طيبة مع دولة الكيان الصهيوني. وبقي قائما حتى قامت الثورة الإيرانية سنة 1979م الموافق 1399هـ ، وأسست نظاما فارسيا شيعيا متعصبا، يحكم بالحديد والنار، تم إنشاؤه بمساعدة الغرب؛ فقصة الدعم الغربي معلومة، صحيح أن الشاه كان مخلصا لأسياده في الغرب، ولكن المرحلة القادمة تحتاج وجوها جديدة، فالمطلوب استنزاف الشرق الأوسط، وإدخاله بدوامات لا تنتهي من الحروب بعيدا عن دويلة الكيان الصهيوني، وهذا ما حدث ويحدث إلى يومنا هذا، فكانت البداية حرب مع العراق استنزفت قوته وخيراته، ثم حربا الخليج الأولى والثانية فحصار فحرب ثالثة فاحتلال صليبي إيراني للعراق، ثم ثورات أو فتن (سمها ما شئت) تعصف بلدان العرب، لتسيطر إيران على عدة عواصم عربية، ولا يزال العرض مستمراً.
فالموضوع سياسي بحت، فالنظام الإيراني يستخدم التشيع ذريعة لحروبه ضد العرب، وكذلك نظام آل سعود يستخدم الدفاع عن الإسلام وعقيدة أهل السنة ذريعة للتدخل في شؤون الدول الأخرى والعدوان على اليمن وغيرها من بلاد المسلمين، باختصار يا سادة كله كذب في كذب، وكلهم دمى تحركهم أمريكا، فلا يوجد هناك عداء بين إيران والغرب ولا بين آل سعود وإيران، فكلها مسرحيات.
ولكن إذا افترضنا جدلا أن النظام الإيراني الحاكم هو مخلص لعقيدته، ويحاول نشرها إيمانا بها، فإنه من الظلم أن ننسى حقائق التاريخ التي تؤكد أن العرب هم من أوجدوا الفكر الرافضي، وأنهم هم حملته ودعاته، وأن جميع الدول الشيعية التي قامت في إيران قبل عام 1925م لا علاقة لها بالفرس، وأن العرب والتركمان هم حملة الفكر الرافضي من سنة 35هـ (زمن الخليفة الراشد علي رضي الله عنه) حتى سنة 1399هـ (سنة قيام ثورة الخميني)، ثم حمل الفرس راية التشيع. أي أن العرب والتركمان حملوا راية التشيع أكثر من 1364 سنة، وأما الفرس فلم يحملوها إلا في الأربعين سنة الأخيرة، فالأقلام المأجورة وحجم الدمار الذي تسبب به النظام الإيراني، ساعد في ترسيخ كذبة أن الفرس هم من أوجدوا الفكر الشيعي وأنهم دعاته وحملة رايته طيلة التاريخ الإسلامي.
الجزيرة