في 4 فبراير 2004، اعترف العالم الباكستاني عبد القدير خان، الذي اشتهر بدوره في تطوير الترسانة النووية الباكستانية، على شاشة التلفزيون في بثّ حيّ بأنّه قام ببيع تكنولوجيا الأسلحة النووية بشكل غير قانوني لإيران وليبيا وكوريا الشمالية على مدى عدّة عقود من حياته. يتمتّع خان هذه الأيام بشعبية متجدّدة، حيث يتم وصفه على أنه “منقذ باكستان”. يظهر خان كضيف شرف في الاحتفالات الرسمية، وفي العام الماضي أعلنته جامعة “سير سيد” للهندسة والتكنولوجيا “خريجا متميزا” اعترافا بـ “خدماته الجليلة ومساهماته القيمة في البحث العلمي وتطبيقاته العملية المفيدة للبشرية”.
في خارج باكستان تم نسيان خان إلى حد كبير، على الرغم من أن بصماته لا تزال موجودة في كل مكان توجد فيه برامج نووية مثيرة للجدل في العالم. فثلاثة من أهم التحديات الحالية للأمن القومي الأميركي – أي إيران وكوريا الشمالية وباكستان- هي مرتبطة إلى حد كبير بأفعال خان.
بين بداية تورطه في السوق السوداء النووية في منتصف 1970 واعترافه القسري في عام 2004، سنحت للولايات المتحدة ودول أخرى العديد من الفرص لتوقيفه لكنّه في كل مرّة يقرر صناع السياسات أن جهود منع انتشار الأسلحة النووية كانت أقل أهمية من السعي إلى تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأخرى.
اليوم، هذه القرارات عادت لتقض مضاجع قادة الولايات المتحدة، فالرادع النووي الباكستاني يجعل من المستحيل على القادة الأميركيين إجبار البلاد على إغلاق ملاذاتها الآمنة للمتطرفين الأفغان. والبرنامج النووي الإيراني -على الرغم من أنه مجمّد في الوقت الراهن- قد يؤدي يوما ما إلى سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط. وكوريا الشمالية، التي ساعدها خان على التحول من شوكة في خاصرة العالم إلى قوّة نووية غير مستقرة، تهدد الآن حياة الملايين من البشر.
ولكن كيف ولماذا سُمح لخان بالاستمرار في أنشطته لفترة طويلة؟ وما هي الدروس التي قد يمكن تعلّمها من إخفاقات صناع القرار في إيقافه؟
اكتساب القوّة النووية
ولد خان في الهند عندما كانت تحت الحكم البريطاني في عام 1936 وهرب مع عائلته إلى باكستان بعد التقسيم في عام 1948. حصل على شهادة الدكتوراه في الهندسة من الجامعة الكاثوليكية في لوفين ببلجيكا في عام 1972، ثم حصل على وظيفة كمهندس معادن في معمل لتخصيب اليورانيوم في هولندا، حيث كانت تجري أعمال متطورة في التخصيب للاستعمال في المفاعلات المدنية.
كان خان ما زال يعمل في هذه المنشأة في عام 1974 عندما قامت الهند باختبار أول سلاح نووي لديها. هذا الحدث أشعل الحسّ القومي لدى خان، فبدأ يبحث عن وسيلة لمساعدة باكستان على اكتساب قدرات مماثلة لغريمتها الهند. في البدء، تم تجاهل رسائله إلى المسؤولين الباكستانيين. ولكن في آب أغسطس 1974، أبدى رئيس الوزراء في حينه، ذو الفقار علي بوتو، اهتمامه برسالة كان قد أرسلها له خان. طلب بوتو من السفارة الباكستانية في هولندا الاتصال به، وبحلول خريف عام 1974 كان خان ينسخ سرّا تصاميم لأجهزة الطرد المركزي ويجمع قائمة بالشركات التي يمكن أن تزود باكستان بالتكنولوجيا اللازمة لإنتاج يورانيوم عالي التخصيب للأسلحة النووية.
تحت أعين المخابرات المركزية والاستخبارات الهولندية تمكن خان من إكمال سرقة تصاميم أجهزة الطرد المركزي. وسرعان ما غادر خان وعائلته هولندا إلى باكستان في ديسمبر 1975
كان يمكن توقيف خان في هذه المرحلة المبكرة. ففي منتصف عام 1975، رصدت شرطة الأمن الهولندية اجتماعا بينه وبين دبلوماسي باكستاني كان يشتبه في أنه يسعى للحصول على تكنولوجيا نووية. وأعربت الشرطة عن اعتقادها بأن لديها أدلة كافية لاعتقال خان. ولكن بعد التشاور مع كبار المسؤولين الحكوميين الهولنديين ووكالة المخابرات المركزية الأميركية، قرروا إبقاءه تحت المراقبة على أمل معرفة المزيد عن شبكة باكستان لتهريب الأسلحة النووية. ثم تحت أعين المخابرات المركزية والاستخبارات الهولندية تمكن خان من إكمال سرقة تصاميم أجهزة الطرد المركزي. وسرعان ما غادر خان وعائلته هولندا إلى باكستان في ديسمبر 1975، ولا نعرف ما إذا كان قد تنبّه بأنه تحت المراقبة أو أنه شعر ببساطة بأنه حصل على كل ما يحتاج إليه.
هناك طريقتان أساسيتان للحصول على المواد الانشطارية التي تشكل النواة المتفجرة للسلاح النووي. الأولى هي معالجة البلوتونيوم، وهو منتج ثانوي للمفاعلات النووية، لتحويله إلى مواد انشطارية. الثانية هي استخدام أجهزة الطرد المركزي عالية السرعة لإثراء اليورانيوم إلى مستوى يصبح عنده قابلا للاستخدام لصناعة الأسلحة النووية، ويسمّى بـ “اليورانيوم عالي التخصيب”.
في الوقت الذي عاد فيه خان إلى بلده، كانت جهود باكستان منصبّة على الطريقة الأولى أي طريقة البلوتونيوم. لكن علماءها كانوا يفتقرون إلى الخبرة ولم يحرزوا أي تقدم حقيقي. هنا قدّم خان اقتراحا بديلا: استخدام تصاميم أجهزة الطرد المركزي المسروقة والاستفادة من شبكة من الموردين المحتملين للمواد النووية في أوروبا. في البداية واجه اقتراحه بعض التشكيك، لكن الباكستانيين سرعان ما منحوه منشأة بحثية وحرية العمل دون أي قيود. فبدأ في بناء أجهزة الطرد المركزي لإنتاج اليورانيوم عالي التخصيب للأسلحة النووية، بمساعدة تدفق مستمر من التكنولوجيا المتقدمة من الموردين الأوروبيين.
غض النظر عن البرنامج النووي الباكستاني
بحلول أواخر السبعينيات، كانت الولايات المتحدة وحكومات أخرى على بينة من الجهود النووية الباكستانية والتقدم الذي أحرزه خان في تخصيب اليورانيوم. في 6 ابريل عام 1979 فرض الرئيس الأميركي جيمي كارتر عقوبات اقتصادية على باكستان في محاولة لوقف تقدمها النووي. كما استخدمت إدارة كارتر نفوذها لحجب القروض عن باكستان من البنك الدولي وقامت بالضغط على فرنسا وغيرها لوقف بيع المواد النووية إلى إسلام أباد. ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه الضغوط قد أوقفت البرنامج النووي الباكستاني في نهاية المطاف أم لا.
كانت رؤية مستشار الأمن القومي الأميركي “زبيغنيو برزيزنسكي” أن على أميركا مراجعة سياستها تجاه باكستان وتقديم المزيد من الضمانات لها والمزيد من من المساعدات العسكرية
تغيّر كل شيء عندما قام الاتحاد السوفياتي بغزو أفغانستان في عشية عيد الميلاد عام 1979. لسنوات طويلة، كانت الولايات المتحدة تقدم مساعدة سرية محدودة للمجموعات التي كانت تحاول الإطاحة بالنظام المدعوم من قبل الاتحاد السوفيتي في كابول. وبعد الغزو، رأى مستشار الأمن القومي، زبيغنيو برزيزنسكي، في ذلك فرصة لإضعاف السوفيات عن طريق إرسال المزيد من النقود والأسلحة إلى الميليشيات الأفغانية.
للقيام بذلك، احتاج الأميركيون إلى قاعدة عمليات. في مذكرة مؤرّخة بـ 26 ديسمبر من ذات العام مرسلة إلى كارتر قال برزيزينسكى إن باكستان المجاورة لأفغانستان هي المرشح المثالي لتلك المهمّة. وأضاف أن توسيع العمليات في أفغانستان “سيتطلب مراجعة سياستنا تجاه باكستان وتقديم المزيد من الضمانات لها والمزيد من المساعدات العسكرية، وللأسف، علينا الإقرار بأن سياستنا الأمنية تجاه باكستان لا يمكن أن تمليها بعد الآن سياستنا الخاصة بعدم انتشار الأسلحة (النووية)”. أي أنه كان يتعيّن على الولايات المتحدة أن تغض النظر عن البرنامج النووي الباكستاني. وافق كارتر فرفع العقوبات المفروضة على باكستان وأقر ما قيمته 400 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية والعسكرية لإسلام آباد.
بذلك فتح قرار كارتر الباب أمام باكستان للحصول على أسلحة نووية -وستقوم باكستان باختبار أول قنبلة نووية لها بنجاح في عام 1998-. خلال مقابلة تلفزيونية في عام 2009، قال خان نفسه إن الحرب السوفياتية الأفغانية “وفرت لنا مساحة لتعزيز قدراتنا النووية. فنظرا للضغوط الأميركية والأوروبية على برنامجنا، يصح القول إنه لو لم تحدث الحرب الأفغانية في ذلك الوقت، فإننا كنا لن نتمكن من صنع القنبلة في وقت مبكر كما فعلنا”.
الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر
بعد مرور ما يقرب من أربعة عقود، تضطر الولايات المتحدة اليوم للتعايش مع تبعات قرار كارتر. فالحرب الأميركية في أفغانستان مستمرّة دون نهاية في الأفق، بتكلفة مليارات الدولارات وآلاف الأرواح، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن الجماعات المتطرفة تستطيع الهرب إلى أماكن آمنة في باكستان. ولا يمكن للولايات المتحدة أن تجبر باكستان على القضاء على هذه الملاذات الآمنة لأن إسلام أباد يمكنها أن تعتمد دوما على الرادع الذي توّفره ترسانتها النووية.
عودة إلى خان، فإن الرجل لم يتوقف عند تطوير قنبلة لباكستان بل استمرّ في نشاطاته الجانبية، وقام بإنشاء سوق سوداء نووية عالمية.
براثن خان
أحد الأشخاص الذين كانوا على اطلاع مباشر على شبكة خان هي بنازير بوتو، رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة التي اغتيلت في عام 2007. أثناء وجودها في المنفى في دبي، أخبرتنا بوتو كيف عرفت عن دور خان في البرنامج النووي الإيراني وكيف سهلّت دون معرفتها تعاونه مع كوريا الشمالية.
فكما ذكرت بوتو، وأثناء رحلة رسمية إلى طهران في أواخر عام 1989، خلال سنتها الثانية كرئيسة للوزراء، أخذها الرئيس الإيراني أكبر هاشمي رفسنجاني جانبا خلال عشاء رسمي وشرح لها أن القادة العسكريين في البلدين تفاهموا على اتفاقية دفاع تضمنت الحصول على مساعدة باكستان في مجال تكنولوجيا الأسلحة النووية. قالت بوتو إنها فوجئت بهذه المعلومة. (خلصت تقارير المخابرات الأميركية من تلك الفترة إلى أن الجيش الباكستاني لم يكن يحيطها علما بتفاصيل برنامج الأسلحة النووية).
استدعت بوتو الجنرال ميرزا اسلم بيج، رئيس القوات المسلحة الباكستانية، إلى مكتبها فور عودتها إلى إسلام آباد. نفى الجنرال أي علم باتفاق حول نقل قدرات نووية إلى ايران. أخبرتنا بوتو بأنها كانت متأكدة من أنه كان يكذب ولكنها كانت ضعيفة جدا سياسيا فلم يكن بإمكانها تحدّي الجيش، بيد أنها اتخذت بعض الإجراءات فأمرت بعدم السماح لأي عالم نووي بالسفر خارج باكستان دون موافقتها، وهو أمر أكده أحد مساعديها في ذلك الوقت.
كان شعور بوتو بالضعف في محلّه، فلقد تمت الإطاحة بها كرئيسة للوزراء بعد أقل من عام من تلك الأحداث. وبحلول ذلك الوقت، كان خان قد سافر إلى إيران للمساعدة في بناء أول منشأة لتخصيب اليورانيوم في البلاد في ناتانز. وفي حين أن تواريخ الأحداث ليست معروفة بدقّة، فإن التحقيقات اللاحقة التي أجرتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية وغيرها وجدت أن خان كان قد أجرى أوّل اتصال له مع إيران في عام 1987، وأن خان وشبكته كانا في أواخر الثمانينيات يزّودان التكنولوجيا النووية لبرنامج إيران المنشأ حديثا. قبل نهاية العقد، كان خان قد سلّم إيران أكثر من 2000 مكوّن وقطعة تعود الى أجهزة الطرد المركزي لإثراء اليورانيوم، وهو تدفق استمر حتى منتصف التسعينيات.
كانت بداية شبكة خان قد انطلقت مع عدد قليل من الشركات في سويسرا وألمانيا والتي كانت على استعداد لاستغلال الضوابط الضعيفة على التصدير. كما طور علاقات قوية مع المهندسين وخبراء آخرين في ألمانيا وهولندا وسويسرا والمملكة المتحدة. بعد ذلك بفترة غير طويلة، بدأ خان بتصنيع المكونات في مصانع ماليزيا وجنوب أفريقيا، واستخدم إمارة دبي كمركز لشحنها. لم تتنبّه الولايات المتحدّة طوال التسعينيات لعمليات التهريب التي أدارها خان، فركّزت تحقيقاتها على إمكانية قيام روسيا بتزويد الأسرار النووية لإيران.
في عام 1993، أصبحت بوتو رئيسة للوزراء للمرة الثانية. بعدها بأسابيع، أتى خان لزيارتها. خلال مقابلتنا معها، أخبرتنا بوتو أن خان طلب منها وقتها القيام برحلة جانبية إلى كوريا الشمالية خلال زيارتها الرسمية للصين عام 1994. قالت إنه كان يريد مساعدتها في نشاطاته النووية. عندما سألته بوتو عما يعنيه، قال خان إنه يريد الحصول على مساعدة كوريا الشمالية من أجل صاروخ كان يطوّره ليصبح قادرا على حمل رؤوس نووية.
الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب ورئيسة الوزراء السابقة بنازير بوتو
بما أن بوتو كانت تريد تحسين مكانتها مع الجيش الباكستاني، وافقت على طلبه. قالت لنا: “اعتقدت أن الجيش سوف يكون سعيدا جدا وسوف يوقف محاولاته لزعزعة استقرار حكومتي”. خلال المقابلات التي أجريناها معها، أكدت رئيسة الوزراء السابقة أن باكستان دفعت المال مقابل تصاميم لصاروخ نودونغ من كوريا الشمالية. لكنها قالت إنها لم توافق على تزويد كوريا الشمالية بالتكنولوجيا النووية.
لكن خان نفسه دحض شهادتها هذه. فخلال منتصف التسعينيات، لاحظت المخابرات الأميركية أن خان قام بـ 13 رحلة إلى كوريا الشمالية، وفي معظمها كان يحمل معه شحنات على متن طائرات عسكرية باكستانية. وأقرّ خان في اعترافه عام 2004 بأنه قام بنقل التكنولوجيا النووية إلى إيران وليبيا وكوريا الشمالية، على الرغم من أنه تراجع في وقت لاحق عن أقواله.
خان وكوريا الشمالية
بالنسبة لكوريا الشمالية، فإن مساعدة خان أتت في لحظة حرجة، فعلى غرار باكستان، ركزت كوريا الشمالية في البداية على معالجة البلوتونيوم في مفاعلاتها المدنية لتحويلها إلى مواد انشطارية من أجل صناعة أسلحة نووية. ولكن المفاعلات النووية هي منشآت ضخمة ومرئية للطائرات والأقمار الصناعية. بحلول أوائل التسعينيات، اكتشفت المخابرات الأميركية والوكالة الدولية للطاقة الذرية البرنامج النووي لكوريا الشمالية. وفي عام 1994، وافقت الولايات المتحدة وكوريا الشمالية على تجميد برنامج هذه الأخيرة مقابل النفط والغذاء بموجب ما سميّ بـ “الإطار المتفق عليه”. عملية مراقبة تطبيق الاتفاق كانت سهلة إذ إن المفاعلات كانت على مرأى من مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وكان يمكن رصدها من الجو. واجه برنامج كوريا الشمالية إذا طريقا مسدودا.
أجرت كوريا الشمالية عدة تجارب نووية في السنوات الأخيرة، لكن لم يستطع المراقبون الدوليون تحديد ما إذا كانت المواد الانشطارية قد أتت من البلوتونيوم أو اليورانيوم عالي التخصيب
قدّم خان لكوريا الشمالية مسارا بديلا للوصول إلى الأسلحة النووية. على عكس المفاعلات، فإن أجهزة الطرد المركزي هي صغيرة ويمكن إخفاؤها في منشآت تحت الأرض وأنفاق داخل الجبال (التي يبنيها الكوريون الشماليون بمهارة عالية). سمحت أجهزة الطرد المركزي هذه لكوريا الشمالية بمواصلة تطوير مخزون سري من المواد الانشطارية على الرغم من الإطار المتفق عليه وعقوبات الأمم المتحدة.
على الرغم من أن كوريا الشمالية أجرت عدة تجارب نووية في السنوات الأخيرة، لم يستطع المراقبون الدوليون تحديد ما إذا كانت المواد الانشطارية قد أتت من البلوتونيوم أو اليورانيوم عالي التخصيب. ولكن في عام 2010، فاجأ الكوريون الشماليون العالم من خلال دعوة سيغفريد هيكر، الخبير النووي الأميركي البارز، لزيارة منشأة غير معروفة سابقا تحتوي على 2000 جهاز طرد مركزي. وادعى الكوريون الشماليون أن أجهزة الطرد المركزي هذه كانت تستعمل لتخصيب منخفض المستوى من أجل مفاعل جديد لإنتاج الكهرباء. لكن هيكر كتب أن هذه المنشآت “يمكن تحويلها بسهولة نحو إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب كوقود لقنابل (نووية)”.
استخلاص العبر
انتهت أنشطة خان التهريبية مع الاعترافات التي أذاعها في 4 فبراير 2004. بحلول ذلك الوقت، كان موقف الولايات المتحدة من أعمال خان والبرنامج النووي لباكستان قد تغيّر. أثارت هجمات 11 سبتمبر مخاوف من أن يضع تنظيم القاعدة أو بعض الجماعات الأخرى أيديهم على جهاز نووي أو من أن يقوموا بتصنيع أسلحة نووية بأنفسهم بمساعدة أشخاص مثل خان. حصلت الولايات المتحدّة على دليل قاطع على أنشطة خان بعد أن اعترضت البحرية الأميركية في عام 2013 سفينة كانت تحمل مواد نووية من أحد مصانع خان متّجهة إلى ليبيا.
أجبر الرئيس الباكستاني في حينه برويز مشرف خان على الاعتراف، بيد أن مشرف، الذى كان يواجه ردّة فعل غاضبة من القوميين الباكستانيين وجيش متململ، خفف من وطأة ما فعل في اليوم التالي فقام بالعفو عن خان، وأعطاه عقوبة خفيفة (خمس سنوات قيد الإقامة الجبرية). في عام 2008، تراجع خان عن اعترافه، على الرغم من أنه كان قد تفاخر بمساعدة إيران وكوريا الشمالية في السابق.
لكن الضرر الذي تسبّب به هذا الرجل لا يزال مستمرّا، فلقد بنى خان شبكة عالمية سرية زادت من خطر وقوع كارثة نووية، مدفوعا بالأنانية، والنزعة القومية، ومهارته في العمل الخفي. والأسوأ من ذلك أنه لم يجبر أبدا على تحديد المتورّطين في سوقه السوداء. ببساطة لا يعرف صناع القرار ووكالات الاستخبارات النطاق الكامل لأنشطته، مما يعني أنهم لا يستطيعون إغلاق هذا الملف ونسيان المخاطر القائمة له.
تمت عرقلة جهود الوكالة الدولية للطاقة الذرية عند كل منعطف حاولت فيه تعقب المتورطين وتحديد مدى انتشار الدراية بالتقنيات النووية في العالم. ورفضت الشركات والمصرفيون والحكومات والأفراد التعاون معها. خشي البعض من التعرض لخطر قانوني وأراد آخرون تجنب أي إحراج.
“ينبغي أن يكون وقف انتشار تكنولوجيا الأسلحة النووية أولوية قصوى لكل الحكومات. فإذا تم تفجير جهاز نووي واحد من قبل دولة أو جماعة إرهابية فإن ذلك سيغير عالمنا إلى الأبد”
أسوأ المعرقلين كانت باكستان والولايات المتحدة، فالرئيس مشرّف رفض السماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية أو أي شخص بمقابلة خان بعد اعترافه، بل ومنعه من مغادرة باكستان خوفا من أن يتم القبض عليه واستجوابه. من جانبها، الولايات المتحدة، لم تضغط على الباكستانيين لإجبار خان على كشف أسراره، وفي صدى لقرار كارتر بغض الطرف عن الجهود النووية الباكستانية.
لم يرغب الرئيس جورج بوش الابن في المخاطرة بعلاقته الهشة مع إسلام آباد في وقت كانت الحرب محتدمة في أفغانستان في هذا الموضوع. ولكن إدارة بوش ذهبت أبعد من ذلك. فأقنعت وكالة الاستخبارات المركزية بمساعدة من المدعي العام آنذاك ألبرتو غونزاليس ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس الحكومة السويسرية بتدمير مجموعة هائلة من الوثائق والمخطّطات الرقمية المصادرة من ثلاثة من شركاء خان في سويسرا. تضمنّت المواد هذه خارطة طريق للمشاركين في شبكة خان وجردا للتكنولوجيا المتداولة في السوق السوداء، بما في ذلك تصاميم الأسلحة المتقدمة.
كانت وكالة المخابرات المركزية تحاول حماية الشركاء الذين كانوا قد تلقّوا 10 ملايين دولار لقاء الإبلاغ عن خان قرب نهاية عملياته. حتى أن مسؤولا كبيرا في الوكالة الدولية للطاقة الذرية شاهد شخصيا إتلاف ما يقرب من طنّين من الأوراق وحرقها في محرقة في برن جنبا إلى جنب مع العشرات من محركات الأقراص الصلبة على مدى يومين في فبراير 2008.
هناك دروس أخرى يمكن تعلمها من قضية خان. مثلا، ينبغي أن يكون وقف انتشار تكنولوجيا الأسلحة النووية وتشديد قوانين التصدير أولوية قصوى لكل الحكومات، فإذا تم تفجير جهاز نووي واحد من قبل دولة أو جماعة إرهابية فإن ذلك سيغير عالمنا إلى الأبد. وبالمثل، ينبغي لصناع السياسات أن يعلنوا الاتجار في تكنولوجيا الأسلحة النووية جريمة ضد الإنسانية لأن الحكومات الوطنية لا يمكن الاعتماد عليها للقيام بما هو مطلوب.
الجزيرة