يعد الانسحاب من سوريا أحد الوعود الانتخابية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أوفى بأغلبها، وبأكثرها إثارة للجدل حتى الآن، وهو نقل السفارة الأميركية إلى القدس. لكن، وخلافا لوعوده الأخرى، يسود الأخذ والرد تنفيذ هذا الوعد. وكلما تحدث ترامب بحماسة عن فكرة الانسحاب عاد وخفف من اندفاعه. وتجلى هذا بوضوح إثر إعلانه عن سحب قواته من سوريا في ديسمبر الماضي، لكن بعد زيارة مفاجئة إلى القاعدة الأميركية في العراق، عشية عيد الميلاد، غرّد الرئيس الأميركي بأنه يتعهد باتخاذ مسلك انسحاب “حذر” من سوريا، منكرا أنه أمر برحيل القوات الأميركية على الفور.
ستيف هولاند وفيل ستيورات وليزلي روتون
واشنطن – كانت الانتقادات اللاذعة تنهال على الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الداخل والخارج لإعلانه المفاجئ الشهر الماضي سحب القوات الأميركية على الفور من سوريا عندما وصل إلى قاعدة الأسد الجوية في العراق في اليوم التالي لعيد الميلاد.
وقال مسؤولون إن ترامب استمع داخل وحدة من الجيش -من الوحدات سابقة التجهيز التي يستخدمها الجيش وذات سقف مقوس وتحيط بها أسلاك شائكة- إلى تقارير من القادة الأميركيين عن العمليات تشير إلى أن الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية أصبح في متناول اليد وأن الجيش لا يحتاج إلا إلى وقت قصير فقط لاستكمال المهمة.
وقال أحد المسؤولين لرويترز “كانوا متفائلين بقدرتهم على إتمام المهمة”، مضيفا أنه يعتقد أن هذا الاجتماع كان حاسما في التأثير على أفكار ترامب.
وقال ثلاثة مسؤولين مطلعين على ما دار في اللقاء، الذي لم ينشر شيء عن فحواه بهذا التفصيل من قبل، إن اللفتنانت جنرال بول لاكاميرا، قائد قوات التحالف في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق بقيادة الولايات المتحدة، شرح لترامب -الذي كان صبره على الحرب قد نفد- الأسباب التي تجعل الانسحاب السريع مستحيلا دون تعريض القوات للخطر.
وفي حالة البلبلة التي أعقبت إعلان ترامب في 19 ديسمبر 2018 قرار الانسحاب من سوريا الذي كان من أسباب استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس، يبدو أن اللقاء الذي استغرق 45 دقيقة ساهم في بلورة تفاهم بين ترامب وكبار القادة على الأرض.
وفي تصريحات للصحافيين سلم ترامب بأن إدراكه للوضع قد تحسن بعد حديثه مع القادة في مسرح العمليات بدلا من المسؤولين في واشنطن. وساعد هذا اللقاء على إتاحة فرصة لأن يلتقط الجيش والدبلوماسيون في الولايات المتحدة الأنفاس من أجل التخطيط لانسحاب من سوريا أكثر تأنيا.
وكانت تلك تجربة جديدة على الرئيس في أولى زياراته لمنطقة حرب منذ توليه الرئاسة قبل قرابة عامين بعد الضربات السياسية التي تلقاها من أعضاء جمهوريين في الكونغرس وحلفاء الولايات المتحدة ردا على قرار الانسحاب من سوريا.
وبعد انقضاء قرابة ثلاثة أسابيع على هذا اللقاء لم ينسحب جندي واحد من سوريا وكان كل ما انتقل من سوريا بعض العتاد. وكان الرئيس السابق باراك أوباما قد أمر في 2015 بدخول قوات العمليات الخاصة الأميركية إلى سوريا بعد أن تردد لفترة طويلة في أخذ تلك الخطوة في غمار الحرب الأهلية السورية.
وتحوّل ما بدأ كمهمة يشارك فيها العشرات من رجال القوات الخاصة إلى عملية شارك فيها المئات وظل العدد يتزايد. وأصبح في سوريا اليوم حوالي 2000 جندي أميركي. وعلى الرغم من أن ترامب أعلن في البداية عن انسحاب سريع فقد ردد منذ ذلك الحين أنه ليس من الضروري أن يكون الانسحاب سريعا.
وقال ترامب للصحافيين في البيت الأبيض في السادس من يناير الجاري “سننسحب في سوريا وسنسحب قواتنا. لم أقل قط إننا سننجز ذلك بسرعة”. وفي واقع الأمر أن ترامب قال في 19 ديسمبر 2018 إن القوات الأميركية عائدة للبلاد “الآن” وإنها بالفعل ألحقت الهزيمة بالدولة الإسلامية في سوريا.
ولا يعتقد أي من الخبراء أن التنظيم قد انهزم رغم أنه خسر تقريبا كل ما فرض عليه سيطرته في 2014 و2015 من أراض بعد أن استولى على مناطق في سوريا والعراق وأعلن قيام دولة الخلافة.
وقالت وزارة الدفاع الأميركية إن الانسحاب “لا يعتمد على إطار زمني متعسف” وإنه سيأخذ في الاعتبار الظروف القائمة على الأرض والمحادثات مع الحلفاء.
ويبدو أن التنازل الذي قدمه ترامب بإتاحة المزيد من الوقت قد دفع الجيش الأميركي ومسؤولي الإدارة الأميركية إلى تحقيق أكبر الإنجازات الممكنة في الأيام الأخيرة من الحملة السورية.
ويقول مسؤولون أميركيون لرويترز إن التخطيط لانسحاب كامل ما زال يجري رغم التصريحات المثيرة للبلبلة بل والمتضاربة في بعض الأحيان من البيت الأبيض ورغم التوتر مع تركيا التي يُفترض أن تتولى أمر الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية.
التنازل الذي قدمه ترامب بإتاحة المزيد من الوقت دفع الجيش الأميركي ومسؤولي الإدارة الأميركية إلى تحقيق أكبر الإنجازات الممكنة في الأيام الأخيرة من الحملة السورية
وقال عدة مسؤولين إنهم يتوقعون انسحابا قبل نهاية مارس لكنهم لم يتمسكوا بهذا الموعد في ضوء النقاشات سريعة التطور حول السياسات والتطورات التي لا يمكن التنبؤ بها في ساحة المعركة.
بصفة غير رسمية يبدي بعض المسؤولين الأميركيين قلقهم خشية ألا تكفي الدفعة الأخيرة للحفاظ على المكاسب التي تحققت بجهد كبير في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية أو ألا تضمن الحماية للحلفاء الذين دعمتهم الولايات المتحدة في وحدات حماية الشعب الكردية وساعدوا في الحرب على التنظيم.
وتعتبر تركيا، عضو حلف شمال الأطلسي، الفصيل الكردي امتدادا لحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه أنقرة منظمة إرهابية. كما أن ترامب نفسه أبدى مخاوفه على الأكراد يوم الاثنين فحذر تركيا من “دمار اقتصادي” إذا هاجمت الأكراد المتحالفين مع الولايات المتحدة في سوريا. وقال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إنه يعتقد أن ترامب يشير إلى عقوبات.
ووفقا للتقديرات الأميركية كان تنظيم الدولة الإسلامية يسيطر على نحو 100 ألف كيلومتر مربع من الأرض يبلغ عدد السكان فيها حوالي ثمانية ملايين نسمة. وكانت الإيرادات التي يحققها التنظيم تبلغ قرابة المليار دولار سنويا كما أنه استخدم مدينة الرقة السورية التي كانت عاصمته الفعلية كقاعدة للتخطيط لشن هجمات في أوروبا.
وبدعم من التحالف بقيادة الولايات المتحدة وما كان ينفذه من ضربات جوية ومدفعية وما يقدمه من مستشارين وعتاد حربي استطاعت القوات البرية المدعومة من الولايات المتحدة في سوريا والعراق انتزاع السيطرة على مدن من أيدي المتشددين. وأعلن العراق الانتصار على التنظيم في 2017.
ويرفض المسؤولون العسكريون الأميركيون التنبؤ بالسرعة التي يمكن بها القضاء على أفراد التنظيم في المدن التي يوجدون بها في سوريا ويعيد هؤلاء المسؤولون التذكير بالقتال حتى الموت الذي خاضه المتشددون في مدينة الموصل بالعراق.
ولا يزال التنظيم يسيطر على حوالي 300 كيلومتر مربع في وادي نهر الفرات الأوسط وفقا لتقديرات التحالف. وكان استمرار التنظيم من الأسباب التي أذهلت وزارة الدفاع من قرار ترامب.
غير أن قيادات عسكرية ومدنية كان من بينها ماتيس التقت في وزارة الدفاع بعد الصدمة الأولى في الأسبوع الذي سبق عيد الميلاد لبحث أفضل السبل وأسلمها وأكثرها إدراكا للمسؤولية لتنفيذ انسحاب القوات وحماية الحلفاء الأكراد.
واتضح أن انسحابا سريعا خلال 30 يوما، مثلما أشار إلى ذلك البيت الأبيض في البداية، لن يفي بمعايير السلامة والإحساس بالمسؤولية. وقبل قرار ترامب المفاجئ كان تخطيط وزارة الدفاع يشير إلى أن تنفيذ الانسحاب يحتاج إلى أربعة أشهر. وهون مصدر من هواجس ترامب بشأن ما إذا كان الانسحاب سيتم خلال أسابيع أم في غضون أشهر. وقال المصدر “كل ما يريد أن يعرفه هو أنه يحدث”.
ومما يستحق الإشارة أن الأمر الذي أصدره ماتيس قبل عيد الميلاد لم يتضمن إطارا زمنيا محددا رغم أن مسؤولين أميركيين قالوا إن القادة العسكريين أبلغوا البيت الأبيض بأنه لا يمكن تنفيذ انسحاب مأمون في فترة تقل عن 120 يوما.
وقال المسؤولون إن هذا الأمر لم يتغير منذ ترك ماتيس منصبه في 31 ديسمبر 2018 وتولي نائبه باتريك شانهان أمور الوزارة. في الوقت نفسه تواصل القوات التي تدعمها الولايات المتحدة في سوريا -ومِن ضمنها الأكراد- القتال مخالفة بذلك توقعات المحللين بأن تتجه شمالا على وجه السرعة استعدادا لهجوم تركي.
وفي واقع الأمر تقاتل تلك القوات تنظيم الدولة الإسلامية منذ إعلان ترامب الانسحاب، تدعمها في ذلك الضربات الجوية والمدفعية التي يشنها التحالف. ولا يزال الحلفاء الأميركيون الذين أخذهم إعلان ترامب على حين غرة يسعون لاستيضاح توقيت الانسحاب الأميركي.
وهيمن سحب القوات على المباحثات التي أجراها بومبيو خلال اجتماعاته في عمان والقاهرة وأبوظبي والرياض والعراق في الأيام الأخيرة والتي أبلغ فيها حلفاء الولايات المتحدة بأن الانسحاب يمثل تغييرا تكتيكيا فقط.
وقال المسؤولون الأميركيون ودبلوماسيون إن الحلفاء يريدون أيضا معلومات عن الدور الذي سيلعبه الجيش الأميركي بعد الانسحاب لضمان ألا تقوم لتنظيم الدولة الإسلامية قائمة مرة أخرى. لكن يبدو أن الحلفاء يشعرون بارتياح للتباطؤ البادي في تنفيذ الانسحاب. فقد قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان “يبدو أن هناك تغيرا أعتقد أنه إيجابي”.
العرب