خطوط متوترة: هل تستطيع الدول العربية العودة إلى “الحدود الصلبة”؟

خطوط متوترة: هل تستطيع الدول العربية العودة إلى “الحدود الصلبة”؟

تفرض التحولات الاستراتيجية الراهنة التي تشهدها المنطقة تداعيات عديدة أهمها تصاعد مشكلات الحدود بين الدول العربية، في ظل تنامي ظواهر الأمن غير التقليدي، خاصةً ظاهرة التنظيمات العابرة للحدود، وتأثير الفاعلين من غير الدول، بالتوازي مع استمرار تهديدات الأمن التقليدي التي تُعاني منها بعض الدول العربية تاريخيًّا. وثمة مؤشرات عديدة تزيد من احتمالات بقاء هذه الحالة لعقود قادمة، بل وانتشارها في ظل استنساخ أنماط الفوضى والاضطرابات الأمنية من دولة إلى أخرى، وسعى العديد من القوى المتطرفة إلى محو الحدود وتأسيس خرائط ومناطق نفوذ جديدة.

خريطة معقدة:

تواجه كثير من الدول العربية مشكلات خاصة بالحدود، مع تفاوت درجات خطورتها؛ لكن بعضها تحول إلى حالات معقدة تمثل بؤرة لتصدير التوتر والاضطراب لدول الجوار مثل سوريا التي تشترك في حدودها مع 5 دول هى لبنان وإسرائيل وتركيا والأردن والعراق.

والأمر ذاته ينطبق على ليبيا التي تحولت إلى مركز لتصدير الأزمات لـ6 دول جوار هي مصر والسودان وتشاد والنيجر والجزائر وتونس؛ حيث تنتشر كافة أنماط التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة والمرتزقة، كما أن هناك مواقع تحت سيطرة تنظيم “داعش”، وأخرى تابعة لتنظيم “القاعدة”، وثالثة موالية لـ”الإخوان المسلمين” ورابعة تابعة للقبائل.

فضلا عن ذلك، تحولت الحدود المصرية المشتركة مع قطاع غزة إلى أحد مصادر التهديد الرئيسية لمصر، خاصة عقب اندلاع ثورة 25 يناير 2011. وباتت الحدود الجديدة التي فرضها تقسيم السودان بين شطريه الشمالي والجنوبي مناطق نزاع وصراع بين الطرفين.

أسباب متعددة:

ثمة أسباب عديدة أدت إلى تصاعد هذه الظواهر، من أبرزها تصدع الدولة المركزية بسبب الحرب كما في الحالة العراقية، وسقوط النظم السياسية وانهيار المنظومة الأمنية إثر اندلاع الثورات العربية على غرار حالتي سوريا وليبيا، وتدهور المنظومة الأمنية كما في الحالة المصرية، خاصة في سيناء، في أعقاب اندلاع ثورة يناير، فضلا عن اتساع نطاق الخلافات السياسية بين الدول مثلما يحدث في معظم حالات النزاع الحدودي، بالإضافة إلى بعض العوامل الأخرى التي تعمل على تصعيد حدة التوتر والصراع، مثل التوترات الإثنية والطائفية والتدخلات الدولية والإقليمية.

أنماط مختلفة:

تنقسم التهديدات المؤثرة على الحدود بين دول المنطقة إلى الأنماط التالية:

1- تهديدات أمن تقليدية: وهي تهديدات قائمة تاريخيًّا بين غالبية الدول العربية، لأسباب عديدة، من أبرزها النزاعات الحدودية، واختراق تنظيمات إجرامية متخصصة في تهريب السلاح والمخدرات والبشر والسلع أطراف هذه الدول.

2- تهديدات أمن غير تقليدية: وأبرزها صعود وتنامي ظاهرة التنظيمات العابرة للحدود، ويمثل تنظيم “داعش” نموذجًا لها، فقد بدأ من العراق وتمدد إلى سوريا، ونجح في استقطاب 12 تنظيمًا محليًّا على الأقل في 10 دول في المنطقة، وتفرض الأيديولوجيا تأثيرًا لا يمكن تجاهله على موقف التنظيم من الحدود، ففضلا عن أنه لا يعترف بها، فإنه يعمل على إزالتها في سياق سعيه إلى إعلاء ما يُسمى بـ”فكرة الخلافة” وتقسميه العالم إلى “دار حرب” و”دار سلام”، أو “دار إسلام” و”دار كفر”.

3- تهديدات مركبة: وهي الحالات التي يحدث فيها تداخل بين النمطين السابقين؛ حيث تتحول ظاهرة الأمن التقليدي إلى بيئة حاضنة لبعض ظواهر الأمن غير التقليدي. فعلى سبيل المثال، شكلت الحدود الرخوة بين الدول بيئة نموذجية لانتشار التنظيمات الإرهابية؛ حيث تمتد الحدود لمسافات طويلة دون وجود قوات مدربة قادرة على التحكم فيها، ولديها أنظمة مراقبة جيدة، على غرار الحالة العراقية-السورية، حيث كانت هناك صعوبة في تأمين حدود بطول 605 كم، فقبل اجتياحها من قبل تنظيم “داعش”، كانت هناك قوات نظامية من حرس الحدود تقدر بـ3 آلاف جندي عراقي مزودة بمروحيات أمريكية حديثة تصل إلى حوالى 64 طائرة، لكنها لم تفلح في منع اختراق التنظيم للحدود.

آليات المكافحة:

ربما يمكن القول إن هناك دولا فقدت السيطرة على حدودها تمامًا، بفعل انتشار التنظيمات الإرهابية فيها، على غرار سوريا والعراق وليبيا، وهو ما يفرض على دول الجوار ضرورة إحكام الرقابة على الحدود بهدف منع تسلل التنظيمات إليها، إلا أن هذه المهمة تبدو صعبة بالنسبة لبعض الدول، لا سيما في ظل وجود تنظيم بحجم “داعش” ما زالت لديه القدرة على التمدد واجتياح مناطق جديدة داخل العراق وسوريا، على غرار تدمر السورية والرمادي العراقية، رغم الضربات التي يتعرض لها من قبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد سعت بعض الدول إلى تبني سياسة ما يُسمى بـ”صناعة أمن الحدود”، وإعادة الاعتبار لفكرة “الحدود الآمنة”، وذلك عبر التوسيع في بناء الجدران العازلة، مع اللجوء لاستخدام نظم مراقبة حديثة، كما في حالة الحدود المصرية مع قطاع غزة، إذ اتخذت مصر إجراءات عديدة لإعادة ضبط الحدود، منها هدم الأنفاق وإقامة منطقة عازلة.

في حين لا تزال هناك دول تعتمد على القوة التقليدية في التعامل مع الظاهرة باستخدام الأجهزة الأمنية والقوة العسكرية في السيطرة على الحدود، وهو ما يبدو جليًّا في حالة الجزائر التي تواجه تهديدات عابرة للحدود بسبب تصاعد حدة الصراع وعدم الاستقرار وانتشار التنظيمات الإرهابية في ليبيا، وهو ما دفعها إلى حشد نحو 4 آلاف جندي، في ديسمبر 2014، على الحدود لمنع تسلل العناصر الإرهابية إلى أراضيها، لا سيما في ظل وجود تقديرات تُشير إلى أن نحو 14 فصيلا مسلحًا يسيطرون على مساحات شاسعة من الحدود بين البلدين.

في النهاية، يبدو أن الجهود التي تبذلها بعض الدول لإعادة الاعتبار لفكرة “الحدود الصلبة” أو “الحدود الآمنة” تُواجه عقبات عديدة، لا سيما في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، والتي تزيد من احتمالات تصاعد حدة عدم الاستقرار، السياسي والأمني، واتساع نطاق تهديدات الأمن التقليدية وغير التقليدية.

وحدة الأمن الإقليمي

المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية