الإعلان الأميركي عن الانسحاب من سوريا، أنعش آمال تركيا في وضع يدها على الشمال السوري الذي لطالما اعتبرته جزءا من أراضيها، بيد أن مراقبين يستبعدون نجاحها في تحقيق هدفها المنشود في ظل امتلاك الأكراد لأوراق مهمّة للتصدي للمخطط التركي ومنها الرهان على موسكو.
دمشق – يفضح الإصرار التركي على رفض انتشار الجيش السوري في منبج بريف حلب وشرق الفرات، نوايا أنقرة في وضع يدها على الشمال السوري، وضمه إلى أراضيها.
وجدّدت أنقرة الجمعة معارضتها لأي وجود للنظام السوري في منبج، وقال الناطق باسم وزارة الخارجية التركية هامي أكسوي للصحافيين إن “جهود وحدات حماية الشعب الكردية لإدخال النظام إلى منبج لا يمكن السماح بها”.
ولطالما اعتبرت تركيا محافظة حلب وجزءا مهما من إدلب أراضي تابعة لها تاريخيا وأنه جرى افتكاكها منها في اتفاقات مجحفة بحقها إثر انهيار الدولة العثمانية.
وقد أيقظت الحرب السورية قبل ثماني سنوات نوازع تركيا في السيطرة على تلك الأجزاء ولمَ لا كامل المنطقة السورية الحدودية معها وصولا إلى العراق، ولهذا كان تركيزها شديدا على تلك المنطقة.
بيد أن مسارات الحرب وصمود الأكراد السوريين في مناطقهم وانتزاعهم السيطرة على مناطق أخرى في الشمال السوري كانت تحت قبضة داعش بدعم قوي من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة فرملت الاندفاعة التركية، وإن كانت الأخيرة قد سعت إلى قضم أجزاء متاحة لها في حلب ومحافظة إدلب التي تقع تحت سيطرة فصائل إسلامية موالية لأنقرة، في انتظار الفرصة المواتية.
وأنعش إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 19 ديسمبر الماضي عن قراره بسحب قوات بلاده من سوريا آمال تركيا التي عدتها فرصتها الذهبية لوضع يدها على المنطقة خاصة وأن الذريعة جاهزة وهي محاربة الإرهاب في إشارة إلى تنظيم داعش والأهم وحدات حماية الشعب الكردي التي تزعم أنها تشكل التهديد الأخطر على أمنها القومي وجب استئصاله.
وقال القائد العام لوحدات حماية الشعب سيبان حمو الجمعة، “قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من سوريا فتح الباب لأطراف عدة، دولية وإقليمية، أبرزها تركيا، لطرح مشاريعها الخاصة لاستغلال الخطوة الأميركية”.
وأضاف “تركيا تهدف إلى ضم وتتريك ما يقرب من 60 ميلا من العمق السوري من محافظات حلب والرقة وإدلب وغيرها، وصولا إلى الحدود العراقية.. هي بالأساس تعتبر هذه المناطق جزءا من الأراضي التركية وحدودها القومية في ما يعرف بالميثاق الملي (عام 1920).. إنهم يرون أن الوقت الراهن قد يكون الفرصة الملائمة لتحقيق هذا الهدف”.
ولم يخف حمو انزعاجه الواضح مما وصفه بـ“مبدأ المصلحة الذي تتعامل به الدول الكبرى في ما يتعلق بالمكون الكردي”. وأوضح أن “العالم كله يشهد أننا لم نعتد على تركيا، وأن العكس هو الصحيح.. كل التهديدات والاعتداءات جاءت من جانب تركيا ومرتزقتها، وكان آخرها ما حدث، ولا يزال يحدث، بحق أهالي عفرين من مجازر وتهجير.. ونظرا لأن الشعب الكردي فقير وليس لديه موارد يساوم بها، فإن كفة تركيا هي الأرجح لهم، ومن ثم نجد الدول الكبرى تتبنى مزاعمها بضرورة تأمين حدودها من الخطر الكردي، في تناقض بشع للواقع على الأرض”.
وفي محاولة لإجهاض المشروع التركي لاستهدافهم وسط مخاوف من حدوث صفقة تركية أميركية، سارعت الوحدات الكردية عقب القرار الأميركي بالانسحاب إلى إعادة التواصل مع دمشق وموسكو، ومن الاتفاقات الأولية كان تسليم منبج إلى الجيش السوري، وهذا الأمر أثار هستيرية تركيا، وهو ما بدا واضحا في التصريحات المتواترة للمسؤولين الأتراك وآخرهم الناطق باسم الخارجية هامي أكسوي.
وتسيطر قوات سوريا الديمقراطية التي تقودها وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة من التحالف الدولي لمكافحة تنظيم داعش، على مدينة منبج الواقعة شمال شرقي حلب.
وتشكل منبج أيضا موقعا للقوات الأميركية التي استهدفها الأربعاء هجوم تبناه تنظيم الدولة الإسلامية وأسفر عن سقوط 19 قتيلا بينهم أربعة أميركيين، في أكبر خسارة للولايات المتحدة منذ تدخلها في سوريا في العام 2014.
وسبق وأن جرى اتفاق بشأن المدينة بين أنقرة وواشنطن في مايو، ينص على انسحاب وحدات حماية الشعب الكردي وإنشاء دوريات مشتركة أميركية تركية بدأت في نوفمبر، وذلك بعد تهديدات تركيا باجتياح المدينة عقب سيطرة قواتها المدعومة بجماعات سورية موالية على مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية في مارس الماضي.
وتصنف تركيا وحدات حماية الشعب مجموعة “إرهابية” زاعمة ارتباطها بحزب العمال الكردستاني الذي يشن حركة تمرد على الأراضي التركية منذ 1984، رغم أنه لم يسجل على مدار السنوات الماضية أي تحرك كردي من سوريا يستهدف أنقرة.
وتحاول تركيا اليوم استغلال قرار ترامب الانسحاب، والذي تلاه بعد أيام تبنيه لخطة سابقة لتركيا لإقامة منطقة آمنة، لإبعاد الأكراد واحتلال مناطق الشمال تحت عناوين تحقيق الأمن وتجفيفها من الإرهاب.
وأعلنت كل من روسيا ودمشق إضافة إلى قوات سوريا الديمقراطية تحفظها على تولي أنقرة إدارة المنطقة الآمنة في ظل إدراك بأن الأخيرة تريد بداعي حماية أمنها وضع يدها على كامل الشمال السوري.
وقالت قيادات كردية إن المنطقة العازلة التي أعلنت تركيا الاتفاق مع الولايات المتحدة على إقامتها في الشمال السوري لا تستهدف فقط الوجود الكردي في المنطقة، وإنما قضم أكبر قدر ممكن من الأراضي السورية. وحذّرت هذه القيادات من أن تركيا، إذا نجحت في ذلك، فإن “شهيتها الاستعمارية” قد تنفتح باتجاه المزيد من أراضي الدول العربية.
وشدّد حمو “لو كان بهذا العالم أبسط قواعد النزاهة، لكان يتعين أن تقام المنطقة العازلة بعمق 20 ميلا داخل الأراضي التركية حفاظا على الشعب الكردي”.
وقال “نحن كقيادة عسكرية لا علاقة لنا بالتفاهمات التركية- الأميركية، هذا نتركه للإدارة السياسية، وسنلتزم بما تقرره، وسنظل من جانبنا نحصّن مناطقنا استعدادا لمواجهة أي خطر”.
وحول العلاقة مع دمشق، قال حمو “الحدود التي نسيطر عليها هي حدود الدولة السورية والتهديدات التركية الراهنة هي تهديدات للدولة السورية، ولذا، نحن نقول إن حكومة دمشق لديها مسؤولية الدفاع عن تلك الحدود”. وتابع “بالتأكيد هناك مشاكل مع دمشق ونريد حلها، ولكن في النهاية نحن جزء من الشعب السوري ونحمل الجنسية السورية”.
وحذر حمو الدول العربية من البقاء في موقف المتفرج مما تقوم به تركيا، وقال “إذا ظل العالم العربي في موقف المتفرج، فإن التاريخ قد يعيد نفسه.. وقد تنفتح الشهية التركية القذرة وتحاول بأسلوب استعماري جديد ابتلاع الدول العربية واحدة تلو الأخرى”.
وأظهرت تركيا في السنوات الأخيرة رغبة واضحة في إعادة ما تعتبره أمجاد الدولة العثمانية في المنطقة، وتراهن على القوة الناعمة والخشنة معا لتحقيق هذا الهدف.
ووصف القيادي الكردي البارز صالح مسلم الحديث عن تولي تركيا إقامة المنطقة العازلة بأنه “أشبه بتسليم الخروف للذئب”. وقال “لا نعرف التفاصيل الكاملة لتفاهمات ترامب/أردوغان عن المنطقة الآمنة، ولكن ما نعرفه هو أن هذا هدف استراتيجي لتركيا”.
وأضاف مسلم ساخرا “حينما يتكلمون عن حماية مناطق بشمال سوريا بتسليمها لتركيا، فالأمر أشبه بتسليم الخروف للذئب.. وقد أكدنا رفضنا القاطع لذلك، وأبدينا تعاطيا إيجابيا مع فكرة المنطقة الآمنة شريطة دعمها بقوات دولية: تحمي الأكراد وفي الوقت نفسه تثبت زيف الادعاءات التركية بأننا كأكراد سوريين نستهدف حدودهم وأمنهم”.
وأشار إلى أن اتصالات الأكراد مع الجانب الأميركي لا تزال متواصلة، لافتا أيضا إلى وجود اتصالات مع الروس.
وهناك قناعة كردية بدأت تتبلور منذ إعلان الانسحاب الأميركي بأن التوصل إلى تفاهم مع دمشق قد يكون الخيار الأمثل لإجهاض المخطط التركي بيد أن ذلك رهين التفاهم بشأن إعطاء مناطق السيطرة الكردية وضعا خاصا، وهو ما يبدو أن دمشق مترددة بشأنه.
وقال صالح مسلم إن فرص التوصل إلى اتفاق أصبحت أقوى والتصريحات التي صدرت عن الخارجية السورية مؤخرا إيجابية وهم يتطلعون إلى البناء عليها.
العرب