أجمعت أصوات الشعب التركي على رفض التهديد الذي وجهه الرئيس الأمريكي ترامب يوم 13 يناير/كانون الثاني الجاري بتدمير تركيا اقتصادياً، وعلى الرغم من أن التهديد مشروط بمنع استهداف تركيا للمسلحين الأكراد شرق الفرات، فإن التنديد بهذا التهديد جاء من كل الأحزاب السياسية التركية من دون استثناء، في السلطة وفي المعارضة أيضاً، وهذا أظهر لترامب سوء تقديره وخطأ تهديده، ما اضطره إلى التراجع بطريقة غير مباشرة، من خلال الاتصال بالرئيس التركي أردوغان وحديثه معه عن رغبته بإقامة منطقة آمنه بعمق 30 كم من الحدود التركية داخل سوريا.
كما قام ترامب بتحذير التنظيمات الكردية التي تعادي تركيا بعدم استهداف الأمن القومي التركي، ليظهر أنه مقتنع ومهتم بالأمن القومي التركي، وهو ما غيّر موقف أردوغان بعد الاتصال، وكان قد عبر عن حزنه الشديد من تهديدات ترامب غير المتوقعة، كما عبّرت السياسة التركية عن تأييدها لفكرة المنطقة الآمنة، التي طالب بها ترامب، مذكرة على لسان وزير خارجيتها جاويش أغلو بأن فكرة المنطقة الآمنة فكرة تركية منذ عام 2012، ولكن أمريكا رفضتها في ذلك الوقت من قبل إدارة أوباما، بينما سبق لترامب نفسه أن دعا إليها قبل عام تقريباً، ولكن من دون السعي لتنفيذها، لأن وزارة الدفاع الأمريكية رفضت الفكرة.
ولكن إذا كان امر الانسحاب الأمريكي حتميا الآن، فإن البنتاغون سوف يسعى لتنفيذ المنطقة الآمنة بشروطه وإشرافه في الغالب، بينما تسعى تركيا ليكون تحت حمايتها وإشرافها أيضا.
إن فكرة المنطقة الآمنة أو المناطق الآمنة، كانت تركيا فعلا قد طالبت بها لأهداف عديدة، منها إبعاد مخاطر الثورة السورية على دول الجوار أولاً، ولتأمين ملاذ آمن للاجئين السوريين الذين بدأوا بالتدفق إلى دول الجوار منذ الأشهر الأولى للثورة، بعد 15 مارس/آذار 2011، وأخيرا لاستيعاب السوريين الذين ازدحموا على أبواب أوروبا وغيرها من دول العالم، وقد سعت الحكومة التركية لإقناع أمريكا والدول الأوروبية بإيجاد المناطق الآمنة والملاذات الحدودية للشعب السوري، سواء في تركيا أو الأردن أو لبنان أو العراق، حتى لا يضطر الشعب السوري للخروج من بلاده أكثر مما حصل، وقد حاولت بعض الدول الأوروبية تفهم الأمر، ولكن إدارة أوباما رفضت هذه الفكرة، بحجة كلفتها المالية، وتعذر ضمانها عسكرياً، بينما كانت خطة أمريكا الحقيقية وما زالت ترك الأزمة السورية تتوسع داخلياً وخارجياً، بهدف إضعاف المنطقة كلها أمنياً وعسكرياً.
سعت الحكومة التركية لإقناع أمريكا والدول الأوروبية بإيجاد المناطق الآمنة والملاذات الحدودية للشعب السوري
وفي عام 2012 بدأت أمريكا بتوسيع الصراع في سوريا بالتوافق مع الرؤية والأطماع الإيرانية، التي كانت تفاوض جون كيري حول ملفها النووي، حتى قيل إن إيران تنازلت عن مشروعها النووي مقابل توسيع نفوذها السياسي والعسكري والأمني والاجتماعي والديمغرافي في سوريا والعراق ولبنان واليمن وعموم المنطقة العربية، بما فيها دول الخليج العربي لاحقاً، بحسب المخططات الإيرانية، والذي تغير مع إدارة ترامب عدم رغبة ترامب بالأخذ بسياسة أوباما نحو إيران ومنع تمدد نفوذها في المنطقة أكثر، كما سعى لتغيير سياسة أمريكا مع تنظيم «الدولة» (داعش)، حيث اتهم ترامب أوباما بتأسيسها ودعمها، فجاء ترامب بخطة وأفكار جديدة في أمريكا أولاً، وفي منطقة الشرق الأوسط والعالم، كانت منها فكرة إقامة منطقة آمنة في سوريا لحماية المدنيين، وعدم تركهم يهاجرون إلى أوروبا ولا إلى دول الجوار، بعد تفاقم أزمة المهاجرين في أوروبا وفي البحار أيضاَ. الخطوة الأمريكية بإقامة منطقة آمنة في سوريا، وما يتبعها من إقامة ملاذات آمنة للسوريين على أراضيهم وحمايتهم من العدوان، سواء من القصف الجوي أو البري، يتطلب منطقة حظر طيران فوق هذه المناطق، سواء كانت في شمال سوريا على الحدود التركية، أو غيرها، ما يعني أن قسما كبيرا من سوريا سوف يصبح تحت الحماية الأمريكية أو التركية، وهذا سيتطلب حظر الطيران فوقها، وعلى الأخص الطيران الحربي، سواء كان لجيش بشار الأسد أو الجيش الروسي، ولذا ينبغي أن تكون التفاهمات التركية الروسية أو التفاهمات الثلاثية التركية والروسية والإيرانية المقبلة موافقة وداعمة لإقامة المنطقة الآمنة شمال سوريا أولاً، فالمنطقة الآمنة إذا نجحت تركيا وأمريكا في إقامتها وكانت تحت الحماية التركية والمساندة أمريكياً، فستكون خطوة صحيحة في تحقيق السلام في سوريا، لأن هذه الخطوة ستكون مرحلية أيضاً، في الجانبين السياسي والعسكري، وكذلك ستكون خطوة ضرورية لتأمين الحياة الكريمة والآمنة لقطاع كبير من الشعب السوري قد يصل لأكثر من عشرة ملايين سوري، من كل الطوائف والقوميات السورية من دون تمييز.
كان الموقف الروسي قبل عام هو عدم الموافقة على المنطقة الآمنة المقترحة من الرئيس ترامب شمال سوريا، لأن تنفيذها سوف يحد من القدرات العسكرية الروسية، وبالأخص الحد من حرية حركة طيرانه، والجيش الروسي يفضل أن يكون صاحب الكلمة الأولى والعليا في سوريا، وبالأخص بعد الانسحاب الأمريكي المفترض من سوريا، وقد طالبت الحكومة الروسية بالانسحاب الأمريكي من سوريا مراراً، لذلك سيكون الموقف الروسي أكثر حرجاً لتركيا من ذي قبل، لأنه سوف يواجه السياسة التركية المتوافقة مع السياسة الأمريكية الجديدة شمال سوريا، ولذلك سيتم لقاء قريب بين الرئيس التركي أردوغان والروسي بوتين بحدود 23 من الشهر الجاري، ولا بد أن موضع المنطقة الآمنة من أهم موضوعاتها، خاصة أن ترامب يريد تنفيذ المنطقة الآمنة بالتعاون بين الجيش التركي والجيش الأمريكي، أي ان الجيش الروسي مستبعد حتى الآن في الرؤية الأمريكية، فكيف ستتم معالجة ذلك في القمة المقبلة؟
لا شك بأن القرار الأمريكي لإقامة مناطق آمنة في سوريا يمثل صدمة للقيادة الروسية، خاصة أنه جاء من دون مشاورات مع روسيا، وروسيا تأمل بالانسحاب الأمريكي الكامل، وهي في الوقت نفسه تقول إن أمريكا تختلق الذرائع للبقاء في سوريا بعد القرار المفاجئ بالانسحاب، فروسيا تدرك أن أمريكا إذا خرجت من الباب دخلت من الشباك، فهي لن تغادر التحكم بالأزمة السورية وإن سحبت جيشها، وحجتها مواجهة «داعش» ومواجهة التمدد الإيراني، وهي تعد لمؤتمر وارسو منتصف الشهر المقبل لهذا الغرض، فأمريكا في قرار الانسحاب من سوريا وربط تركيا معها، أو وهي تلبي المطالب التركية تحاول إقناعها بضرورة التنسيق معها وليس مع روسيا وإيران، إذا كانت الحكومة التركية راغبة بأمنها القومي التركي فعلا، وما صيغة التهديد الترامبية الأخيرة ضد تركيا إلا تحذير كبير لتركيا من الذهاب بعيدا عن أمريكا ومخططاتها في سوريا والمنطقة.
القرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا أولاً، ثم التنسيق مع تركيا لإقامة منطقة آمنة شمال سوريا بعمق 30 كم ثانياً، يشير إلى مرحلة أمريكية جديدة في سوريا، وليس خروجاً منها، من أهم معالمها أنها لن تعير الأطراف المشاركة في الأزمة من الدول الخارجية أي قيمة، كما كانت تفعل إدارة أوباما من قبل، وقد يكون من ضمنها السعي الجدي لتغيير علاقات أمريكا مع التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وبالأخص مع القوات الكردية المسلحة، حيث أن العلاقة معها مصلحية وآنية فقط، وهذا يتوافق مع ما تأمله تركيا وتطالب به، لذا كان من الطبيعي أن تؤيد تركيا الخطوة الأمريكية، ولكنها في الوقت نفسه لن تذهب إلى درجة تغضب فيها الرئيس الروسي بوتين، فضلا عن ان تعمل ضدها في سوريا، أو في المنطقة، وبالتالي فإن التهديد الأمريكي مخطئ بتدمير تركيا اقتصاديا، لأن تركيا ستكون أقوى إذا كانت في حالة مواجهة مع التهديد الأمريكي، وهي في الوقت نفسه ستكون متحدة أكثر في مواجهة هذه اللغة الاستعلائية ثانياً، وسوف تجد من الأصدقاء من يستثمر هذا العداء الأمريكي غير العاقل ثالثاً.
من المهم التأكيد والتأييد لفكرة المنطقة الآمنة، وبالأخص ان تركيا نفذتها بنجاح في المناطق التي حررتها بعد عملية درع الفرات في جرابلس وجنوبها، وعملية غصن الزيتون في عفرين وحتى إدلب، وقد اكتسبت تركيا خبرة وثقة في تقديم العون والحماية للسوريين داخل المناطق الآمنة التي أشرفت عليها وحدها داخل الأراضي السورية، بل إن روسيا نفسها بحاجة إلى تحسين صورتها في سوريا بتقديم المساعدة لإقامة المنطقة الآمنة شمال سوريا، وستجد فيها الخطوة الأولى الصحيحة التي تعيد إعمار سوريا، بما يرضي الشعب السوري وليس بما يرضي الشركات التجارية الطامعة بالأرباح فقط، فحاجة الشعب السوري للإعمار هي الأصل في السير بخطوات صحيحة لإنهاء الصراع في سوريا.
القدس العربي