يشكل النفط قطاعاً اقتصادياً أساسياً للعراق ومحوراً لسياساته الخارجية. وأعارت الدول الصناعية اهتمامها بالاحتياطات العراقية منذ نهاية القرن الـ19 ، ثم فرضت معاهدات واتفاقات صارمة على العراق بعيد الحرب العالمية الأولى، ما أهلها لبسط سيطرتها من خلال مساهمة شركاتها في شركة نفط العراق، ثم استلم الكادر الوطني تطوير الصناعة منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي، حيث لعب من خلال شركة النفط الوطنية دوراً حاسماً في نمو الصناعة.
وابتعث العراق المئات من الطلبة المتفوقين للدراسات العليا في الخارج للتخصص، شكلوا نواة الكادر الوطني الذي أشرف على الصناعة النفطية بعد فشل المفاوضات مع شركات الامتياز وتشريع قانون رقم 80 لعام 1961 الذي استعاد للدولة أراضي شركات الامتياز غير المطورة او المنتجة. وتأسست شركة النفط الوطنية عام 1961 ومن بعدها قرار التأميم الذي بدأ عام 1972.
ومن هؤلاء الخريجين الذين ساهموا في إدارة الصناعة النفطية العراقية المهندس الميكانيكي عصام الجلبي الذي استلم مهمات عدة في الصناعة، منها وزير النفط. ونشر مرجعاً حول الصناعة النقطية العراقية خلال القرن العشرين: «50 عاماً في عالم النفط: سيرة ومذكرات»، تداخلت فيه الذكريات والمذكرات والوثائق والابحاث والوثائق والاحصاءات.
وذكر الجلبي: «قام العراق بالإعلان أوائل الثمانينات بأنه سيبدأ بأعطاء معلومات عن احتياطاته وبقية حقائق صناعته النفطية بشكل رسمي، وذلك بعدما ترسخت تجربته الرائدة في التأميم والاستثمار الوطني المباشر، ولم يعد هناك ما يبرر احجامه عن التصريح بها واعتبارها سراً ينبغي كتمانه». فعلى ضوء هذه السياسة الجديدة التي تم تبنيها تغيرت ارقام الاحتياط سنوياً من نحو 47 بليون برميل الذي كانت تنشره شركات الامتياز التي كانت تعمل في العراق قبل التأميم، وتم تحديث المعلومات مع التوجه في الحفر نحو طبقات الحقول العميقة وزيادة معامل الاستخلاص إلى ما بين 10 و35 في المئة. وبادرت الوزارة أيضاً إلى تحديث المعلومات سنوياً ليصل إلى الرقم الحالي إلى نحو 158 بليون برميل. وتركت هذه الشفافية ردود فعل إيجابية في «أوبك» والاعلام النفطي، نظرا لصعوبة الحصول على معلومات نفطية عراقية دقيقة سابقاً. ووصلت الطاقة الإنتاجية إلى أكثر من 4 ملايين برميل يومياً أوائل الثمانينات، بحسب الجلبي، الذي ذكر أن الاعمال الاستكشافية تكثفت خلال السبعينات.
وأضاف أن الوزارة كانت خططت منذ 1978 وما بعدها برنامجاً لتطوير نحو 25 حقلاً «بانتظار توفر المناخ السياسي والاقتصادي والمالي اللازم لها، بينها 11 حقلاً في الجنوب بطاقة إنتاجية 3 ملايين برميل يومياً و11 حقلاً في الشمال بطاقة إنتاجية 500 ألف برميل يومياً، و3 حقول في الوسط بطاقة إنتاجية 300 ألف برميل يومياً. ولكن ذلك توقف بعد اعام 1990 بسبب حرب الخليج والحصار».
وواجهت شركة النفط الوطنية تحديات إنتاجية عدة، بحسب الجلبي، منها «التكنولوجيا وأسس التقييم وأساليب الحفر المعتمدة في تخمين حجم المخزون النفطي واحتياجات العراق وحقوله، وتعثر الحصول على التكنولوجيا الحديثة منذ أوائل الثمانينات حتى عام 2003 وربما حتى عام 2010 حين عادت الشركات الأجنبية للعمل، وذلك بسبب الحروب والحصار والظروف المالية الصعبة التي مر بها العراق منذ تلك الفترة، ثم انحسار القدرات الفنية العراقية بسبب الهجرة وضعف التدريب، إضافة الى استمرار الاعتماد على التقنيات القديمة، مثل الحفر العمودي بدلا من الآبار المائلة، الأمر الذي أدى الى عدم التمكن من الحفر لطبقات منتجة عميقة، ما أبقى الإنتاج محصورا في مكامن عصري التيريشيري والطباشيري، من دون استكشاف وتطوير الإنتاج من العصور الجيولوجيا الأخرى مثل الجيوراسي والترباسي».
واجه العراق منذ بداية تصديره النفط تحديات جغرافية وجيوسياسية، ما أدى ومايزال يؤدي الى تشييد منافذ تصديرية متعددة لتأمين صادراته. وكان الاعتماد الأساسي حتى عام 1972 في الخطط العراقية «على نقل الخطوط المتجهة باتجاه البحر الأبيض المتوسط حصراً، لاعتبارات اقتصادية وفنية، إضافة لجوانب تتعلق بالبعد القومي العربي وارتباط العراق بسورية، ولكن بعد تعثر طويل لضخ النفط غرباً إلى سورية، قرر القيادة عام 1971 وقبل فترة قصيرة من اصدار قرار تأميم عمليات شركة نفط العراق، بإيجاد بدائل تعتمد على التوجه جنوباً نحو مياه الخليج العربي، وشمالاً عبر تركيا الى البحر الأبيض المتوسط، ما نجم عنه مشاريع خطوط عديدة، منها الخط الاستراتيجي للضخ باتجاهين، شمالا عبر تركيا وجنوبا الى الخليج العربي. فالخط العراقي التركي الأول كركوك – جيهان، والخط العراقي – التركي الثاني كركوك – جيهان.
وشكلت قرارات التحول من التصدير عبر سورية الى تركيا او عبر الخليج العربي نقلة نوعية ذات بعدين جيواستراتيجيين، الأول انتكاساً لسياسة التصدير عبور الترانزيت لدولة عربية (سورية) واستبدالها بدولة مجاورة غير عربية (تركيا). واعتبرت هذه السياسة في حينه ضربة مهمة للتعاون العربي، كما شكل التصدير عبر الخليج العربي، اعترافاً بأهمية أسواق النفط الشرق آسيوية (اليابان في حينه).
ولعبت العوامل الجيوسياسية دوراً منذ بدء التصدير في الثلاثينات، إذ ضغطت كلا من دول الانتداب بريطانيا وفرنسا في تصدير نفط كركوك عبر فلسطين (تحت الانتداب البريطاني) خط كركوك – حيفا، وعبر لبنان وسورية (تحت الانتداب الفرنسي) كركوك –طرابلس – بانياس. وأوقف العراق التصدير عبر حيفا عام 1948 نظرا للأحداث السياسية في فلسطين وفكك الخط. ولكن على رغم ذلك استمرت إسرائيل تطمح في إعادة تصدير النفط العراقي عبر حيفا كما تبين ذلك كأحد اهداف احتلال عام 2003 لتغيير ميزان القوى الاقتصادي بينها وبين سورية.
ومع نشوب الحرب الإيرانية – العراقية في الثمانينات والتحديات التي واجهها تصدير النفط العراقي من قبل ايران في الخليج، اتخذت إجراءات أولا لشحن النفط بطريق البر عبر تركيا والأردن ثم بدأ التفكير للتصدير عبر البحر الأحمر، إما من طريق الأردن أو السعودية، وبعد مفاوضات طويلة تم الاتفاق مع السعودية لتشييد خط أنابيب إلى ميناء المعجز السعودي على البحر الأحمر. ونشر الجلبي عدداً كبيراً من الوثائق والمعلومات للمرة الأولى عن هذا الخط الجديد وغيره، فذكر: «في 10 حزيران (يونيو) 2000 صدر أمر سعودي بوضع اليد على سائر منشآت الخط داخل أراضي المملكة لتوقف العراق عن تنفيذ التزاماته (ربما المقصود هو الدفعات الشهرية لشركة «أرامكو السعودية») وخرقه الأعراف والمواثيق (ربما المقصود هو احتلال الكويت). وحسب علمي، فإن العراق لم يقم بمفاتحة المملكة حول ذلك الأمر لغاية احتلال العراق عام 2003. وينطبق الأمر ذاته على النظام العراقي الحالي، وربما كان فقط من خلال بعض الأنباء الصحافية التي أشارت إلى رغبة العراق بإعادة تشغيل المشروع، والذي قررت المملكة ان تستخدم الجزء الممتد عبر المرحلة الثانية للمشروع لأغراض نقل النفط السعودي من شرق المملكة الى موانئ المملكة على البحر الأحمر».
وليد خدوري
الحياة