ليست هناك مؤشرات على انفراجٍ في سورية. وعلى الرغم من أن من يدير الوضع الميداني هي الأطراف الدولية الكبرى، وتسيطر على أرض البلاد في الشمال والجنوب والوسط، فلا أحد يستطيع أن يتكهن أو يخمّن ملامح الحل المقبل. تشبه الجغرافيا السورية رقعة الشطرنج التي يمكن أن تنقلب بحركةٍ خاطفة من أحد اللاعبين، وينتقل اللعب إلى مستوىً آخر. وما يظنه بعضهم وضعا نهائيا في بعض المناطق قد يتعرّض للاهتزاز بين عشية وضحاها، ومثال ذلك الانسحاب الأميركي من منطقة الجزيرة، والذي تبيّن أن له تأثيرا كبيرا على التوازنات القائمة على الخريطة السورية ككل.
ليس السوريون وحدهم من يجهلون مستقبل بلدهم، بل يبدو أن العالم بأجمعه لا يمتلك تصوّرا نهائيا لما يمكن أن يكون عليه طريق الحل. وكلما انعقد اجتماع دولي على مستوىً عالٍ لبحث المسألة السورية، كلما زاد الوضع غموضا، ومثال ذلك القمة بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، في موسكو يوم الثاني والعشرين من الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) من أجل مناقشة القرار الأميركي بالانسحاب من منطقة شمال سورية. وبدلا من أن يصدر عن اجتماع الرئيسين موقف واضح بخصوص إدلب والجزيرة ومصير القوات الكردية، لم يتفاهم الرئيسان على أيٍّ من الملفات المطروحة، بل أعاد بوتين خلط الأوراق، في رميه ورقة اتفاق أضنة الموقع بين تركيا والحكومة السورية عام 1998، وكان الغرض منه تنظيم الوضع الكردي الذي كاد أن يؤدي إلى حربٍ بين البلدين لو لم ترضخ دمشق لشروط أنقرة حينذاك، وتطرد زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، وتغلق معسكرات الحزب في سورية والبقاع اللبناني.
تحولت سورية إلى ساحة حروبٍ مفتوحة منذ عدة سنوات. واحدة تقودُها الولايات المتحدة ضد الإرهاب الداعشي في الشمال، وأخرى تتولاها تركيا ضد الأكراد في مناطق الحدود، وأهم تجلياتها كانت في عفرين، بالإضافة إلى حرب روسيا وإيران المفتوحة على كل من يقف ضد النظام السوري. ومنذ فترةٍ، تشن إسرائيل حربا ضد الوجود الإيراني. وهناك ملاحظتان تسجلان بخصوص هذه الحروب. الأولى أنها تدور من دون أن تتقاطع على الأرض، أو تؤثر أيٌّ منها في مسار الأخرى. وصار هناك ما يشبه ترسيم الحدود بين الواحدة والأخرى. والملاحظة الثانية أن بعض هذه الحروب تتم وفق تفاهماتٍ بين الأطراف، كما هو الحال في حرب إسرائيل ضد إيران، وحرب تركيا ضد الأكراد، وكلتاهما تتم بالتفاهم مع روسيا التي تتحكّم بالقسط الأكبر من الجغرافيا السورية.
ومثلما هناك حروبٌ مفتوحةٌ، هناك أخرى نائمة، تنتظر لحظة القرار، وخصوصا المتعلقة بالوضع في محافظة إدلب التي باتت تسيطر عليها جبهة النصرة المصنفة إرهابية من جميع الأطراف المؤثرة في الساحة السورية. وتشكل مسألة تسوية وضع هذه المنطقة أحد الملفات المعقدة، والتي لا يعرف أحدٌ المسار الذي ستأخذه. وتبدو موسكو صاحبة القرار النهائي، وهي التي ستقرّر ساعة الصفر من أجل إنهاء وجود جبهة النصرة، واستعادة المنطقة إلى سيطرة النظام. ولكن هذه المعركة مؤجّلة إلى حين حصول تفاهم تركي روسي، لأن موسكو تأخذ في الاعتبار عدم الدخول في نزاعٍ مع تركيا التي باتت صاحبة نفوذٍ في هذه المنطقة.
تكمن العقدة الرئيسية في حروب الأجندات المختلفة على الأرض السورية ضمن ثنائية الصراع على سورية وفي سورية، ولكن المسؤولية عن تفكيك هذا الوضع المتشابك تقع على عاتق روسيا التي تتولى حماية النظام وتضعها في الصدارة. وما لم تغير موسكو موقفها، وتتجه نحو عملية سياسية جادّة، فإن الموقف يذهب كل يوم نحو مزيدٍ من التعفّن.
بشير اليكر
العربي الجديد